شهدت خمس دول عربية ثورات شعبية هدفت إلى إزاحة أنظمة الحكم المستبدة فيها، ولكن بعد مرور أكثر من عامين يسود القلق من أن تتسبب تداعيات هذه الثورات في إطاحة كيانات الدول المعنية من أساسها . تكاد هذه النتيجة توازي خطورة خسارة الدولة حرب عسكرية مصيرية أمام عدو استراتيجي، ولا تبدو الأوضاع في هذه الدول العربية أقل كآبة حينما يتعلق الأمر باحتمالات تفككها إلى دويلات متشرذمة ستكون بالتأكيد قليلة الشأن في اعتبارات النفوذ والمكانة الدوليين .
ليست ثورة الشعب على نظام الحكم هي الأسلوب الأمثل لتحقيق أهداف التطوير السياسي والمؤسسي الذي تفرضه متطلبات التنمية السياسية، بل إن هذا الأسلوب هو أكثر قنوات التغيير خطورة وغموضاً مقارنة بمسارات التغيير المتدرج والتوافقي التي كان يمكن أن يؤدي الأخذ بها إلى العبور بهذه الدول إلى استحقاقات الممارسة الرشيدة للسلطة في إطار توافر المقومات السليمة للدولة . لقد غابت هذه الحقيقة عن الشعوب وأنظمة الحكم معاً، في لحظات مفصلية مؤسفة من غياب العقلانية .
كان يمكن للشعوب الغاضبة في تلك الأثناء أن تمارس درجات أكبر من ضبط النفس عندما شرعت بالمطالبة بإسقاط النظم الحاكمة، خاصة أن هذه الشعوب لم تكن متيقنة بخصوص شكل وأداء النظام السياسي القادم . وفي الوقت ذاته، كان يمكن للنظم السياسية المتشبثة بالسلطة أن تعالج توقعات ومطالب الشعوب الغاضبة بمقاربات أكثر واقعية وحكمة، باعتبار أن فرص نجاة النظام من السقوط تتضاءل بشدة حين يفقد اقتناع الشعوب بشرعيته وفق معايير الإرادة العامة والقدرة على الإنجاز التنموي .
نحن ندرك اليوم أن النتائج التي ترتبت على الثورات في الدول العربية الخمس ليست محمودة على الإطلاق .
لقد تحطمت الآمال التي صاحبت الثورات بإقامة أنظمة حكم ديمقراطية، وحلت مكانها هياكل سياسية هشة ذات أداء متخبط في فهم وإدارة شؤون الدولة والشعب والحكومة . بدأت الثورات الشعبية وهي تفتقد الشخصيات القيادية التي كان يجدر بالشعب تحديدها وتقرير مدى اقتناعه بها ابتداء، ولا يزال غياب الشخصيات القيادية التي تستحق التفاف الشعوب حولها قائماً، وتستمر هذه الشعوب محرومة من رؤية الأشخاص القياديين القادرين على إقناع أفراد الشعب بجدوى التبعية لهم .
لا يمكن المبالغة في تصوير مدى الخطورة المحدقة بدول الثورات العربية، بل إن المال المتردي الذي صارت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية في الدول التي تعرف مجازاً بتسمية “دول الربيع العربي” من السوء إلى الدرجة التي تدعو إلى الشعور بالامتنان بأن هذا الربيع الملتهب لم يمتد إلى سائر الدول العربية الأخرى . إن هذا “الربيع العربي” من السوء إلى الدرجة التي لا تؤهله إلى تقديم أية أمثلة يحتذى بها في التغيير السياسي، وهو بالتأكيد غير جدير سوى بتقديم مواعظ سياسية تتعلق بالأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الأفراد والجماعات وأنظمة الحكم بصدد معالجة متطلبات التطوير السياسي .
إن واقع الحال بالنسبة لدول الثورات العربية الخمس سيئ للغاية، وعلى الرغم من أن احتمالات المستقبل بالنسبة لهذه الدول ربما تأتي بأوضاع أكثر إشراقاً، إلا أنه ليس بوسع التفكير حين يجول في شؤون الحاضر إلا أن يتوقف عند الذعر الذي تصنعه المخاطر التي تتهدد سلامة كيان الدولة وأمن الشعب في اليمن وسوريا وليبيا ومصر وتونس . يمكنك أن تطلق عنان تفكيرك في حصر التهديدات التي تحيط بهذه الدول، وسوف يروعك مجرد تخيل تبعات دخول هذه الدول في مهالك الاضطراب الداخلي والافتراس الخارجي التي تشهدها كل واحدة من هذه الدول الخمس خلال الفترة الراهنة .
إن كانت أنظمة حكم الاستبداد الخمسة مرشحة بقوة للتغيير، فإن كيانات الدول العربية التي كانت تحكمها لم تكن يوماً قط جديرة بالتدمير . وإن كانت مستويات أداء أنظمة الحكم في هذه الدول قد اتسمت بالتخلف التنموي، فإن هذه الدول هي الآن أبعد ما تكون عن تحقيق أي إنجاز تنموي بعد أن غرقت نخبها السياسية الجديدة في معارك التناحر السياسي . لقد ظل فشل أنظمة الاستبداد العربية البائدة في تفعيل آليات التعاون العربي المشترك مأخذاً جوهرياً على أداء سياساتها الخارجية على الدوام، ولكن أداء السياسة الخارجية لبعض النظم الحاكمة الجديدة ينذر بأن يكون أكثر سوءاً بسبب افتعاله الأزمات مع الدول العربية الأخرى .
إن الأوضاع التي آلت إليها دول “الربيع العربي” مأساوية ومؤسفة في آن، ولا يبشر نبأ اغتيال زعيم معارض بارز في تونس بأن مسار التحول في هذه الدولة مطمئن كما كان يعتقد الجميع، ولا تشير حالة الاضطراب السياسي التي تعصف بنظامها السياسي نتيجة حادث الاغتيال إلى أن هذه الدولة بمأمن من أسباب عدم الاستقرار التي تعصف بقوة بالدول العربية الأربع الأخرى . إن السهولة التي يمكن أن تتحول بها تونس من وصفها أكثر حالات التحول العربي ثقة من الناحية النسبية إلى حالة يمكن أن تنذر بمستوى خطر من تهديد الاستقرار، نقول إن سهولة هذا التدهور الكامن يجب أن تدخل في تقييم جدوى الثورات التي تفشل في تحقيق أهداف التطوير السياسي التي كان بإمكان مسارات التنمية السياسية المتدرجة تحقيقها بدرجات أكبر من الثقةوالأمان .
واقع الحال هو أن الثورات العربية لم تكن أكثر من فورة توقعات شعبية سرعان ما تبددت أمام ضخامة فشل تحقيق أهداف التغيير السياسي . لا خير في ثورة تضع الدولة على مشارف الانهيار، ولا خير في ثورة تفتك بأنماط الحياة الاعتيادية بالنسبة لجماهير البشر، ولا خير في ثورة تتسبب في الذهاب بفئات الشعب إلى موارد الفتن، ولا خير في ثورة توصل إلى سدة الحكم الطامعين في الانتشاء بامتلاك السلطة، ولا خير في ثورة تصنع الأرض الخصبة لنمو أعمال العنف وتمدد جماعات الإرهاب . لا خير يرتجى من ثورة ليس بوسعها أن تقدم الضمانة الأكيدة بأنها لن تقود البلاد إلى الاضطراب الأمني والفشل السياسي .