صراعات تاريخية
كما في سائر دول المنطقة حيث يشكل الأكراد أقلية إثنية مقيمة في بقعة جغرافية متكاملة كما في تركيا، والعراق، وسوريا، حدثت تطورات تاريخية وأحياناً صدامات ميدانية بين حركات هذه المجتمعات القومية والحكومات المركزية. وقد انفجرت أزمات سلطة وأزمات تعايش في الدول الأربع حيث يعيش الأكراد بما في ذلك في إيران نفسها.
في تركيا، اصطدمت الحركة القومية الكردية مع مثيلتها الحركة القومية التركية بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الدولة الحديثة الكمالية على أساس خلاف على هوية الدولة الوطنية.
وأطلق حزب العمال الكردستاني، الشيوعي سلسلة هجمات على أهداف داخل تركيا وخارجها لعقود. وهذه المواجهة لم تنته حتى الآن. في العراق، الصراع بين أكراد الشمال ونظام العث امتد لعقود، والتجاذبات استمرت بعد سقوط صدام حسين بعد 2003. أما في سوريا فنفس المعادلة كانت قائمة بين أكراد الشمال الشرقي للبلاد، لا سيما في الحسكة، والبعث في دمشق، إلا أن الثورة السورية في 2011، وفرت فرصة لهذه المجموعة لتقيم منطقة ذاتية خارج سلطة نظام بشار الأسد.
أما أخيراً في إيران نفسها، فجذور الصراع بين أكراد البلاد في الغرب والسلطة في طهران هو أيضاً قديم، وكانت له فصول منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وتجسدت الحركة الاستقلالية الكردية في أوجها خلال تجربة "جمهورية مهاباد" التي حصلت على اعتراف ودعم سوفييتي مؤقت طيلة 1946 قبل سقوطها. ولكن نضالاً جديداً انفجر مجدداً بعد استيلاء الخمينيين على الدولة في 1979.
قمع وحرمان
تحت سلطة الملالي عانى المجتمع الكردي في إيران، ما عانته المجتمعات الأخرى من فارسية، وعربية، وآذرية، وبلوشية، وغيرها من قمع وحرمان، وإبعاد عن النمو الاقتصادي والاجتماعي. وقامت القوات الخمينية منذ 1979، وطيلة الحرب مع صدام بهجمات عسكرية على مناطق الأكراد، لا سيما في سنندج، ومهاباد لإنهاء حركة الاستقلال الذاتي.
ورغم إنهاء الحركة الاستقلالية الكردية في السنوات الأولى لحكم "ولاية الفقيه"، إلا أن التيارات المناهضة للنظام نمت وتطورت في المقاطعة في موازاة الموجات الثورية للمعارضة في جميع أنحاء البلاد. وقد انقسمت المعارضة الكردية إلى عدة تيارات، أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب كردستان الحر. وأيضاً شاركت الحركات الشبابية الكردية في مختلف الاحتجاجات ضد السلطة مروراً بمظاهرات 1999، و2009، وانتفاضة 2019.
وفي تلك الأخيرة كانت المسيرات في منطقة كردستان الأكبر حجماً والأكثر قمعاً وعنفاً، ما خلّف توتراً كبيراً بين النظام، وكردستان العراق، حتى انفجار انتفاضة مهسا أميني. ومع بدء المظاهرات في سنندج، والبلدات الأخرى هذا الخريف وصولاً إلى مهاباد، يبدو أن النظام ينوي مهاجمة المنطقة والسيطرة عسكرياً وأمنياً عليها خلال مجابهة ثورة 2022 المرشحة أن تمتد إلى 2023.
أسباب استهداف كردستان
بات واضحاً أن القيادة الإيرانية عملت على استهداف المناطق الكردية داخل الجمهورية الإيرانية وخارجها منذ أوائل الاحتجاجات في سبتمبر (أيلول). فمنذ المسيرات المحلية بعد مقتل مهسا أميني، نشرت قوات الباسيج، والباسدران قوات إضافية في المدن الكردية ما زاد التوتر. وقامت قوات الحرس الثوري بقصف مناطق ضمن كردستان العراق، وهي الآن تقوم باقتحام سنندج ومهاباد رغم تصعيد الاحتجاجات. ويبدو أن أسباب اقتحام الإقليم و"احتلاله" عملياً وتصعيد استهداف شمال العراق ضد السليمانية، وأربيل تتلخص كما يلي:
1. يخشى النظام أن تتوسع الاحتجاجات في المنطقة الكردية، فتستفيد الأخيرة من شل البلاد، وتصعيد الانتفاضة في عموم إيران، لتعلن "سلطة شعبية" في الإقليم، تمهيداً لإعلان الاستقلال الذاتي، كما في كردستان العراق.
2. كما يخشى النظام أن يتبع إقليم الأهواز خطوة كردستان، وهو ملاصق للمنطقة الكردية، فيخرج الإقليمان سوية عن سلطة الجمهورية الإسلامية، ما قد يجر إقليم أذربيجان أن يقوم بالمثل، وهو أيضاً ملاصق لشمال إقليم كردستان إيران.
هكذا موجة قد تسلخ جزءاً كبيراً من البلاد عن النظام وتبقي خامنئي ضعيفاً أمام الثورة الإيرانية الفارسية في المدن.
3. طهران قلقة من العمق الكردي داخل العراق، حيث أن المناطق الكردية في البلدين لها حدوداً مشتركة لمئات الكيلومترات. وتخشى سلطة الملالي أن تستعمل "قوى أجنبية" في أربيل والسليمانية لتمرير الدعم اللوجستي لمهاباد، وسنندج.
4. أخيراً ترى طهرن أن الشباب الإيراني الجديد متضامن عبر القوميات والطوئف والأجناس. وتبين ذلك عندما شارك الآلاف من الشباب الإيراني من كل المناطق ومن طهران في مأتم مهسا أميني في كردستان، والتواصل التنظيمي بين كل "شعوب" الجمهورية.
الموقف الغربي
إذا قامت القوات الإيرانية باحتلال محافظة كردستان وانزلقت لتجتاح المحافظات الأخرى المحاذية، وإذا توغلت في القصف داخل العراق، قد تفجر حرباً إقليمية وتؤدي إلى مقاومات عسكرية داخلية قاسية. الجميع يعلم أن إدارة جو بايدن لا تريد الانزلاق في مجابهة عسكرية مع إيران، ولكن انزلاق طهران عبر "كردستانها" في وحول غزوات خارجية ومجابهات داخلية قد تأتي بـ "الدب إلى كرمها".
فالحرب الخمينية على كردستان إيران، قد تبدأ كما تشتهي طهران، ولكنها قد لا تنتهي كما يريد الملالي.