الحقيقة في كل مجالٍ وفي كل زمانٍ أو مكانٍ لا تحتاج إلى برهان ، وإلاّ أصبحت نصف حقيقةٍ في أحسن الأحوال . حتى وإن حُجبت الحقيقة عن العين ، أو لُوي عنقُها وبان اضمحلال قوامها ، أو قُلب كيانُها وظُنّ أنها أصبحت أثراً بعد عين ، سوف تظهر ولو بعد حين ، لأنها لاتعرف الزمن ولا الوهن .
ومنذ نشوء الخليقة جُبل الإنسان على صراعٍ مع الحقيقة رغم بداهتها ، وأول حقيقة يكابدها هي حقيقة نفسه لقوله تعالى (لقد خلقنا الإنسانَ في كَبَد)
ومن الحقائق أنّ اللُباب تؤكل والقشور تُرمى ، وأنّ الحياة بجوهرها ، والناس بخفاياها لا بمناظرها ، وتقاليد الطقوسِ لا تدلّ على النفوس ِ وغالباً ما يدلّ على المعقول هو المحسوس .
لهذا من دخل تاريخ أمتنا فهماً من أوسع أبوابه وتمعّن جاداً بلبابه سوف لا يُعيقه إحساسٌ بالتمييز بين المعقول وغير المعقول لمعرفة الحقيقة .
فحقيقة التاريخ الثابتة أنّ هذه الأمة ، في أحقاب خلت ، مرات نُكبتْ ، فتعثرت وكبت . كان سباتها يطول أحياناً عقوداً ويمتدّ في أحيان أخرى إلى قرون . تغفو حتى يُظن أنها لن تصحو ، وأنّ الدهر قد درسها كما درس أمماً أُخرى ، ثم مالبثت أن نهضت . لأنها أمة مخزونها من المعتقدات كبير ، فهو من النّضوب أبعد مايكون ، رغم كل التحديات .
واليوم ، فحقيقة أمتنا أنها متعثرة ، مُبعثرة ، تتعثر بخطى بعضها البعض ، هامتُها طالت أقدامها ، لتقبّلَ أقدام أممٍ أُخرى من شدة انحنائها ووهنها وقلّة حيلتها . أقعسها الجهل بذاتها وبما يُحيط بها وخلخل أركان معتقداتها ، فقلّتْ عباقرتُها ، وإن وُجدوا أُبعدوا واحتُقروا ممن تسلطوا في خضم هذه الجهالة . ولأنّ الأمم تُقاد من النّخب وتتباين وتتمايز بها ،
فصلاحها لا يكون إلاّ من صلاح نخبها ، وصلاح نخبها لايكون إلاّ من معرفتها بقيمتهم وتقديرها لأهميّتهم .
عالمنا الحاضر يختلف عن عالمنا السالف كاختلاف الليل والنهار ، وأمام أمتنا إن أرادت النهوض تحديات أكثر وأكبر مما كان سابقاً . ولأني لا أشك
بنهوضها إلاّ أنني أخشى أن يطول ركوعها ، رغم ما أراه اليوم في بعض ربوعها من تململ أعقبه شبه صحوةٍ تتّسم بالموت والدمار .
ليس من مجالٍ أمام أمتنا ، لتصبح أمة تُعدّ بين الأمم إلاّ العلم والمعرفة . فإن لم تتزود بهما فسيبقى نهارها مظلم ، وليلها حالك متجهم ، لعقودٍ طويلة . بهما وبمعتقداتها المبنية على أصولٍ ثابتة دون سطحياتٍ وبهرجةٍ في المظاهر ، ستصلح كما صلح أولها .
الحقيقة العلمية الراسخة تقول: ، أنّ العالم بعد أربعة عقود سيتضاعف تقريباًعدد قاطنيه وسيزداد الفقر فقراً والجهل جهلاً وتنقص الموارد ويقل الكلأ لزحف الصحاري وتشح المياه . فإن لم تصحو أمتنا وأمم أُخرى جاهلة مثل أمتنا ، فستكون الحروب أوسع نطاقاً مما هو اليوم عليه وسيكون
دماراً مزلزلاً . هي صورة قاتمة لكنها واقعية جداً .
غاب عنّا قروناً طويلة إن الإنسان خليفة الله على الأرض ، ولكنه امتُهن وابتُذل وداسته أقدام الخطيئة . فافترش الأرض وتلحّف السماء وقال : ربي إنك معيني وإليك ترد الأمور . يبكي ليله خوفاً من أن يراه أحد ، ويجول نهاره وراء لقمة عيش أبنائه ، وذاك والله هو عين الكبَد . القوي بجبروته والضعيف بضعفه تجري الأمور مواربَة . قلّ بأمتنا الإحساس بالظلم وغدت كرامة الإنسان رقماً يُباع ويُشترى . ذالك وإن توفرت لقمة العيش ببعض أقطارها ، لكنها غُمست بذلّ من غمسها ، فتعاظمت كوارثها .
هذه هي الحقائق التي أعني ، ماثلة أمام أعيننا ،لنأخذ عِبراً منها ، فإن أغمضنا أعيننا عنها ، طال سُباتنا ، وتردّتْ أحوالنا ، وبعدها يعلم الله إلى
أيّ مُنقلبٍ سننقلب . ولمس مالم يتجسد ولم يتبلور ، هي حقيقة في الإنسان
الباحث عن الجوهر .
وكالة كل العرب الاخبارية