شارك أمين عام جائزة الشيخ زايد للكتاب د. علي بن تميم في أعمال مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، ممثلاً دولة الإمارات في هذا المحفل العلمي الهام الذي يأتي هذا العام تحت عنوان "خطورة التكفير والفتوى دون علم". في ما يلي النص الكامل لكلمة د. بن تميم أمس الثلاثاء.
اسمحوا لي في بداية كلمتي أن أتوجه بالشكر والتقدير للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية، على دعوته الكريمة للمشاركة في أعمال هذه الندوة العلمية الجليلة التي تجيء في الوقت المناسب تماماً، وتعبر عن روح مصر العظيمة التي ظلت على امتداد تاريخها تستشعر أهمية اللحظة المناسبة وتعي أهمية الزمن، فمصر تمثّل عبقرية المكان الذي لا يتجلى ولا يبرز للعيان إلا من خلال الوعي بالزمان. وبعد:
لعل من الخير أن أجعل منطلقي الحديث النبوي الشريف الذي يقول:
(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). ويعود ذلك في نظري لأنّ الحديث يرسم أبعاد العلاقة المجتمعية ويحدد علاقة الفرد بالجماعة مستخدما ثلاث كلمات دالة ومهمة هي: الود والرحمة والعطف.وهي كلمات تنتمي إلى المنظومة الخلقية في الإسلام.والكلمات التي يشير الحديث النبوي الشريف إليها، ليست كلمات مترادفة وإن كانت متقاربة في المعنى، لكنها تؤكد أهمية ما يصفه علماء الاجتماع بالسلم الأهلي أو الأمن الاجتماعي في هذه الأيام.
إن للسلم الأهلي والأمن الاجتماعي دلالة واحدة تعني الرفض لكلّ أشكال الاحتراب أو التحريض عليه، أو الترويج له أو تبريره، أو نشر ثقافة الكراهية التي تعدّ التصادم بين العقائد بمثابة الحتمية التاريخي، نظراً لوجود التباينات في العقائد أو وجهات النظر، والعمل على تحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى إيديولوجيا الاختلاف والتنظير لها ونشرها.
الاختلاف
إنّ القران الكريم يشير في هذا الصدد إلى مسألتين مهمتين : فهو من جهة يشير إلى وحدة الخلق، بوصفها قيمة ناتجة عن وحدة الخالق، وهي وحدة يترتب عليها عدة مسائل كالمساواة بين البشر أمام خالقهم، وفيما بينهم، ووحدة البشرية أو وحدة العالم الإنساني. قال تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"{1}النساء1، فهناك النفس الواحدة والأمة الواحدة ومن هذه الوحدة تولدت الوحدة الإنسانية أو المساواة في الخلق والطبيعة والوجود. ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم يشير إلى الاختلاف البشري حيث يقول، سبحانه وتعالى:
"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (فاطر 118)وهي إشارة في غاية اللطف والعمق، فالاختلاف الذي يقع بين الناس ناجم عن الوحدة نفسها، بمعنى أنّ الاختلاف يتولّد عن اختلاف الخيارات التي يتساوى الناس في المقدرة على اتخاذها. وإذا كانت عملية الاختلاف المشار إليها في الآية الكريمة تؤكد المساواة , مثلما تؤكد مبدأ الحرية , فإنها تشير إلى مبدأ آخر لا يقل أهمية عنهما وهو مبدأ التسامح .فإنّ غياب التسامح يعني غياب التعددية التي تسمح بحق التفكير وتفضي إلى احتكار الصواب ,واحتكار الصواب هو مصدر التكفير والإرهاب والعنف.
احتكار الصواب
تعود ظاهرة احتكار الصواب إلى عامل رئيسي يتمثل في الجهل بحقائق التاريخ وضرورات الواقع، و قبل ذلك كله، إلى الجهل بصحيح الإسلام وجوهره ومقاصده، ثم سوء الفهم لدى بعض من يعرفون شيئاً من ذلك، وإساءته عمداً عند بعضهم أحياناً. فهؤلاء الذين يحتكرون الصواب وينزعون منزعا تكفيريا يجمعون , كما كان الأستاذ العقاد يقول, وهو يتحدث عن بعض المستشرقين , بين سوء النية وسوء الفهم. ولهذا فإنّ من الضروري أنْ يتصدّى العلماء الكبار لدحض هذه الإيديولوجيات المتطرفة , و تحليل جذور التضليل وسوء الفهم والبدَع التي تغذي تلك الإيديولوجيات وما تجترحه من العنف القاتل والمدمر الذي ما تزال كثير من مجتمعاتنا تكتوي بنيرانه.
إنّ من يتأمل ظاهرة التكفير بعمق , يرى أنها كانت وبالا على المجتمعات العربية المعاصرة فقد أدت إلى نشوء صراعات بين أبناء الوطن الواحد , مثلما أدت إلى انفلات أمني تمثلت في أعمال العنف المسلحة التي صارت ترتكب بحق المواطنين أو الزائرين المسالمين الذين يتمتعون بحماية المجتمع ويحظون برعاية مؤسساته و أجهزته الأمنية .والناظر إلى التكفير يرى أنه يستغل تطور وسائل الإعلام استغلالا سلبيا .فإذا كانت وسائل التواصل الإعلامي والمجتمعي تسعى إلى بناء رأي عام موحد, فإنّ التكفير يسعى إلى بذر الشقاق وبث أسباب الفرقة وأسلحته تكمن في التكفير والتخوين والتشكيك وبث الإشاعات واغتيال الرموز من أجل تفكيك أواصر المجتمع.
فوضى الفتاوى
وهنا أود أن أشير إلى التقرير المهم الذي أصدره المرصد الإعلامي التابع لدار الإفتاء المصري عن فتاوى التكفير. فقد لاحظ هذا التقرير أنّ الفتاوى انتقلت من الاجتماعي وشرعت تتمحور حول السياسي , كما أنها وصلت إلى حالة وصفها التقرير وصفا صار يتكرر على ألسنة العلماء وهو "فوضى الفتاوى".
والملاحظ أنّ هذه الفتاوى ذات البعد السياسي تدخل النسبي في المطلق وتخلط بين ثوابت الدين ووجهات النظر التي يختلف الناس حولها في شؤون العمل السياسي ولكن الخطورة تكمن في أنّ هذه الفتاوى ذات البعد السياسي تقسم المجتمع " إلى فسطاطين "على حد العبارة الشهيرة لزعيم السلفيين الجهاديين أسامة بن لادن وهو ما يؤدي إلى خراب المجتمعات وانقسامها وإحداث الفتن بين أبناء الوطن الواحد الموحد. فضلاً عن جعلهم التكفير مدخلاً شرعياً للقتل واستباحة الدماء والأعراض، بما يمثل إفساداً في الأرض يهدم مقاصد الشريعة الإسلامية من أساسها.
لكنّ فوضى الفتاوى هذه تكشف أنّ أصحابها غير مؤهلين علميًا ولا عقليًا، فهم يفتقدون أدنى المعايير العلمية المعتمدة في الإفتاء وهو ما يحدث شرخا عميقا في أعراف المجتمعات وتقاليدها , ينبغي على مجموع الأمة أن تتصدى له.
إنّ التكفير يتنافى مع القيم الإسلامية القائمة على حرية المعتقد البشري وقد ذكر الإمام الغزالي أنه" ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا"، كما أنه يتنافى مع القيم الإنسانية التي تقوم على التداخل الثقافي والتمازج الحضاري ، كما عرفناه في حضارتنا وتاريخنا.
والملاحظ أنه - لا يوجد بين التكفيريين علماء وفقهاء لهم معرفة واسعة بالعلوم الشرعية ، و ليس بينهم خريجو التخصصات الشرعية،من الأزهر والقرويين والزيتونة وأقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات ،لكن فيهم دعاة وخطباء تعلو أصواتهم ويتراجع صوت العقل لديهم ، وقد تجد منهم أطباء ومهندسين بمعنى أن التكفيريين يكونون هم من غير العلماء، ومن غير المتخصصين في العلوم الشرعية، فثقافتهم الشرعية محدودة ومتناثرة وفتاواهم تلوي عنق النصوص ليقولونها ما يريدون.
شيخ الفتنة
ثم إننا ابتلينا، في زماننا هذا، بفقهاء أو من يسمون أنفسهم فقهاء، وليسوا من الفقه بشيء، وبدعاة، وليسوا هم من الدعوة بشيء، جعلوا من الفتوى، ومن منبر الخطابة الذي يفترض أن يكون منبراً للدعوة الصادقة النيرة إلى صالح الأعمال، منصة لنشر الكراهية، والتحريض على القتل، ولعل أحد أحدث فصول مثل هذه الدعاوى التحريضية التي يتنكبها صنّاع الفتن في العالم العربي والإسلامي، ما أطلقه شيخ الفتنة يوسف القرضاوي، من على منبر مسجد دولة يفترض أنها شقيقة وجارة، ضدّ بلدي الإمارات، حيث لم يجد حرجاً في الادعاء بأن "الإمارات تحارب الإسلام". أفلا يختزل مثل هذا الافتراء المحض والافتئات الخالص على الحقّ، فكرة احتكار الصواب التي نحن بصددها؟ ثم ألا يمثل مثل هذا الكلام أسوأ صور الافتاء، ولو غير المباشر، حين يقرّر متحزّب متأدلج مثل القرضاوي أن يصم بلداً بأكمله بالكفر، فاتحاً الباب بذلك أمام كلّ قاتل ودمويّ وكاره ومتعصّب ومحتكر للصواب، في العالم، لكي يعتبر الإمارات هدفاً شرعياً ومشروعاً له؟
لقد ساء القرضاوي وأمثاله من دعاة الفتن، الذين ابتليت بهم أمتنا، تلك التجربة المنيرة التي تجسدها دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تجربة تقوم تماماً على النقيض من التعصب والانغلاق والفهم الضيق لديننا الإسلامي الحنيف، وساءه أكثر أن هذه الدولة المحافظة على إسلامها الحافظة لعروبتها، والناجحة- ذلك النجاح الباهر - في الوقت نفسه في تحقيق الإنجازات التنموية تلو الإنجازات، وتقديم نموذج للحكم الصالح والرشيد، فعمدوا إلى محاولة تشويه تلك الصورة الناصعة والتجربة البهية، مستغلين الدين أبشع استغلال، بل مشوّهين كل القيم السامية الرفيعة التي يحضنا ديننا الحنيف عليها.
التجربة الإماراتية
أحب أن أختتم حديثي بحديث نبوي شريف يكمل المعنى الذي أشرت إليه في بداية حديثي:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
إنّ هذا الحديث النبوي الشريف يشير أول ما يشير إلى أهمية الأمن في بناء الحياة المستقرة فردياً ومجتمعياً، فمن المعروف أنّ التقدم والتنمية يعتمدان على الأمن والاستقرار ولا يتحققان بغير وجودهما. لهذا قدّم الحديث الأمن الفردي والمجتمعي على الأمن الغذائي. بل إنه جعل ما يتمتع به الفرد من صحة وعافية امتداداً لشعوره الأمان ونتيجة له. وهذا ما تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أن أسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى يوم الناس هذا.فقد تصدت دولة الإمارات -بحمد الله – لدعاة التكفير والفتنة والتخريب، ودرأت شرورهم وأحقادهم عن المجتمع الذي لم يعرف غير الإسلام دينا , ويجيء ذلك التصدي حفاظا على نهجها المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط و دفاعاً عن نموذجها الراسخ في تحقيق السلم المجتمعي الداخلي، رغم تعدد الأعراق وتنوع الجنسيات والثقافات المقيمة على أرضها، وتأكيداً لمكانتها الإقليمية والدولية، التي اكتسبتها عبر عقود من خلال السياسة التي تدعو إلى لمّ الشمل وتوحيد الصفوف والانفتاح الذي يحافظ على هوية المجتمع وثوابته. وكلي ثقة أنّ مجتمعاتنا قادرة على استعادة عافيتها وسلمها المجتمعي لتصبح جزءا فاعلا في بناء الحضارة المعاصرة.
منشور ايضا في 24 ae
وكالة كل العرب الاخبارية