المزيد
غافة القلب

التاريخ : 30-01-2014 |  الوقت : 11:52:03

وكالة كل العرب الاخبارية : 

غافتْ الشجرة ومالتْ بأغصانها، وغِيفَتْ متبخترة بطولها، لتسمى غافة.. شجرة الغافة التي تغيف، أي تميل صوب القلب، هي شجرة القلب.

لستُ هنا بصدد الاستعراض اللغوي، بل لإعلاء شأن شجرة ليست ككل الأشجار، فهي لا تعرف الاستجداء لامتنانها المستمر، تعطي ولا تأخذ.

عزة نفسها حكاية.. فهل للنبات حكاية؟ يذكرني البعض بأنها شجرة لا إنسان، لكن أليس لكليهما أنفاس؟!.. أليست كائنة حية!

وعزة نفسها في أنها لا تستجدي الأشجار الأخرى ولا البشر لإروائها، فحين تبخل عليها الغيمة بغيثها، تعطش ويتغير لونها ويشاهدها المارون، دون الإعجاب بها أو حتى الإشفاق عليها، وكأنها شجرة منسية قد تشكلت بفعل الطبيعة وستتولاها السماء..

تنتظر الغافة بأدب جم سنوات طوالاً، لكن للعطش صبر، فتمد جذعها نحو أسفل باطن الأرض، حيث الكثبان الرملية المفككة والمالحة، وحيث الحرارة واللاماء، لتجد بعض الرطوبة.. ولأنها خجولة وعزيزة، تشعر بالامتنان، لتخاطب الغافة نفسها: أليست الرطوبة فرصة للمزيد من الصمود والعطاء؟ فرصة لأن تعطي في ظل عطشها غير المروي تماماً.. فتظل بجذعها الممدود في تلك الكثبان المفككة في باطن الأرض، لتزيد من تماسك التربة.. فيا له من عطاء!

في الماضي، كانت الغافة على أراضينا ملجأً للبشر، جذوعها شيدتْ دُوراً، ولحاؤها دواء للأوجاع والأورام.. تأتيها أيام صعبة، فتحرقها الشمس وتهددها الرياح والغبار وتطمرها الكثبان، فتظل بعزة نفسها لتتسامح الغافة حتى مع الصحراء الحارقة والجافة، تُمني نفسها بأن المناخ القاسي يقوم بتحسين تربتها القاحلة عند الجذور، لتستمر في مد جذعها بحب بين الرمال لتتماسك. غافتنا القديمة قدم الدهر، تُسعد دون ضجيج وبلا احتفاء.. تماماً كالوطن مع أبنائها، في احتضانها لتعطي ملجأً ومخدعاً. تؤازر دون حذر.. لذا أشك أنها تنام أو تغفو أو حتى تغفل. أراها مستفيقة ومراقبة.. إنها الشجرة التي تنبت في كل مكان وفي أي مكان.. شجرة فريدة من نوعها، رمز الوطن.

غافة الوطن تعطي دروساً في الحب والتكيف بأقصى ما تستطيع مع أبنائها ومع من حولها، دون انتظار.. ورغم هذا اللحاء الذي تستخرج منه الأدوية المُرّة، وعلف الحيوان، وظلال، وأخشاب، ورغم الرياح والغبار، تعود بأصالتها كما كانت، فتعطي من رحيقها للأشجار حولها دون تذمر، فسعادتها عطاء بلا مقابل.

لا تكتفي الغافة من الصبر والتسامح والعطاء، فهي إن ملكتْ كل تلك الصفات فليس بعيداً أنها تحمل المحبة الكاملة.. لتعطينا درساً، لكن هذه المرة في الحب.

فمن رأى أطرافها الناعمة والتي تحمل أوراقاً ثنائية صغيرة ومتقابلة بنغم؟ ألا تمنحنا وقتاً للتأمل في هذا العشق؟

ورغم أن لها أوراقاً ناعمة ثابتة، لكن احذر من الأشواك الصغيرة التي نبتت حول أطراف أغصانها اللدنة، فهي للتنبيه لا للتجريح.. أليس للغرام وقت للحلم بعيداً عن اليقظة؟

ورغم الجفاف فإن غافتنا الجميلة تقوم بتقديم بقايا أوراقها المورقة لتخلط مع الأرز والمرق، وفي مرحلة تقديمها للحائها، فإنها ترتقي لمقام الأم وتنسجم في أمومتها لتوفر الدفء لأبنائها. أفلا أستدل على أمومتها؟ أليست الأم رمزاً للعطاء؟

تميد الغافة إلى الجانبين في الريح، وتتحمل كل أنواع القسوة، لتظل أغصانها مستقبلة الشمس لتأتي الطيور فتثقب جذعها وفروعها.

ترتعش مذعورة حتى تسوي أغصانها من جديد.. هي لا تسأم، وترفض التململ، ولا تتعرى أمام الشمس، بل تتنفس بعمق وسعادة حين يقف الغراب فوق أغصانها.

والآن، أمام الاستراتيجيات البيئية في الحفاظ عليها، واستغلال المصادر المتجددة للطاقة وتخزينها، وجد الخبراء أن الغافة هي الأنسب لمواجهة التصحر، لتصبح من أهم الطاقات الحيوية التي تحمي هواء الأرض وجوفها.

تستأنس الغافة كشجرة مستدامة بطبيعتها المتغيرة، لنعي جمال روحها.

بدأت أستوعب أن للشجرة روحاً كروح الوطن. غافة الحضارة.. شجرة بعمر التاريخ، ترفض الموت.



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك