وكالة كل العرب الاخبارية : هناك... لم تزل القلوب طرية شهية مثل خبز الطابون ، لها رائحة النار والجوع والحطب..هناك لم تزحف الخصخصة على الأحلام بعد، ولم يزحف زيف السياسة من مقاصصة، ومحاصصة، والحبو نحو كرسي من ذهب..هناك لم تجرح المصلحة وجه الوطن، فظل بهياً نقياً في قلوبهم مثل وجه يوسف النبي...هناك.. في رائحة الشماغ المعتق بالكدح تشتمّ الأردن كلها ومن تجاعيد الوجه تقرأ مفاتيح الحزن العربي..
هدير المعصرة،رعود الموسم ، وقطار الغلّة الذي يسافر في مكانه ، تركب حبات الزيتون عربات الأحلام الثابتة ، تسافر عبر نوافذ التفكير وحسابات «الحقول» ..تطل من عيون ختيار أسند تقوّس ظهره على تقوس عكّازه ،فغاب شيب اللحية في دفء الخشب ، يرسم خطوط صمته على تراب صبره...وهو يفكّر بالأود ، والأحفاد، يفكّر برسوم «الموازي» وزاوج ابنه العريف صالح..ينظر إلى كل من يمرّ أمامه بتمعّن ودهشة كطفل يحدق من نافذة سيارة..يزم شفتيه متألماً إذا ما داس عامل المعصرة حبات زيتون دون قصد أثناء التفريغ، وكأنه داس على أصابع رضيع ، يقوم من مكانه يلتقط الساقط منها، والضعيف، والمجعّد، والهارب، بشعائر لا تخلو من القدسية يرميها في الحوض الوسيع ثم يعود الى دفء فروته سالماً مسالماً...
حتى يتم «تقييف» الوقت لا بد من إنشاء صداقات تجمعها أدنى القواسم المشتركة ؛ مثل التذمّر من بطء المعصرة ، وتعطّل خطوط الإنتاج ، وصلافة العامل الذي ينظّم الدور ، ونتيجة هذه الصداقات الناشئة من الهموم المشتركة ، يتم تبادل السجائر ، والشاي المسكوب بأكواب بلاستيكية بيضاء ، ثم يتم البحث عن نسب قديم او زميل عتيق خدم في نفس الوحدة ويحمل نفس عائلة الصديق المؤقت : « الوكيل محمد القاسم « شو بقربلك..؟؟؟ فيتذكر الآخر ..محمد القاسم محمد القاسم؟؟؟ يسحب الأول من نفس سيجارته ثم يقول : بينادوه أبو قاسم...اسمر مربوع ناصح شوي...فيحاول أن يتذكر الأول: أبو قاسم أبو قاسم؟..فيقول له الثاني : يا رجل أصلع شوي..وكانوا الشباب ملبّقينه « أبو طُبزة» ..فينشرح الأول: آآآآآآآآآآه «أبو طُبزة» عرفته...بيصير ابن عم أبوي اللزم..فيسأل زميله القديم : بالله وين صار...؟!..فتح محل قطع بالمدينة الصناعية وانكسر..هسّع فاتح ملبنة...الزميل القديم: بالله عليك تسلم عليه..وتقول له..نواف الجميل أبو هاني بيسلم عليك، واذا ما عرفني قلّه « أبو الدّهن» وهو بيعرف ..يوصل ان شاء الله...
في ساحة التفريغ، أكياس كتب عليها أسماء أصحابها بخطوط متفاوته..» خزنة الكايد»..»كرمة العلي»..»صيتان الشايش أبو خلف»..»عقلة الحمد»..» ام محمد»..
وعند مزراب الذهب المصهور..أرملة تنظر الى خيط الزيت وهو ينسكب على مهل في «تنكاتها» القليلة، مسبحتها في رقبتها ،تتمتم وتحمد وتشكر..ثم تمسح القطرات التائهة عن باب التنكة الأملس بخبرة مسح الدموع عن الوجوه الناعمة..صوت بكب يرجع إلى الوراء بحمولة جديدة..وبكب آخر يحمل تنكات الأرملة القليلة ، والأكياس الفارغة ، و»التنك» الخاوي الذي لم يقسم الله له أن يرتوي..
يتوهّج الحلم في مسيرة العتمة ، ويتوهّج الرضا بالمقسوم..ولا تنفك حارسة الحلم ، وربّة السراج ، من ذكر العبارة التنبيهية لسائق الايسوزو: «يا خي على مهلك لا ينكبن الزيتات» ..فور وصولها دخلة البيت..يركض الأحفاد نحوها «جدتي اجت» تنزل «دامرها» وبكرج قهوتها الفارغ من «البكب»..تحمل بخوف صفائح «زيتها الذي يكاد يضيء» ...ثم تعانق الأحفاد المشتاقين وتغمرهم بثوبها المعطّر برائحة السهر والزيت والصبر..تخرج رفيقة الليل من رقبتها ، تضع مسبحتها في يدها، وتدخل بيتها الذي غادرته منذ ليلتين بشوق الغائب دهراً ...
**
محبة الوطن ليست هربدة زائفة ولا زخرفة ولا تمجيداً..
محبة الوطن تولد من تجعيدة وجهٍ صادق او من حرقة تنهيدة..