وكالة كل العرب الاخبارية :
**الثورات العربية أثبتت حقيقة أن المجتمع العربي لم يعد يحتمل الإقصائية أيا كان مصدرها وأن التعددية ليست انتقائية.
**تحاول القوى الإسلامية والمدنية تجيير الثورات العربية لتصبح معركة بينها، فمن له الغلبة يصبح الدكتاتور الجديد.
**القاسم المشترك بين القوى الرسمية والإسلامية والمدنية اليوم هو مغازلة التعددية لفظاً وممارسة الإقصائية فعلا.
كتب: مروان المعشر*
بعد ما يقرب من مرور ثلاث سنوات على بدء الثورات العربية، هل يمكن لنا إصدار الأحكام المطلقة على ما يجري في المنطقة من تحولات؟ هل انتهى “الربيع العربي”؟ هل تحول إلى خريف في مصر، أو حتى جحيم عربي في سورية؟ هل كنا في وضع أفضل قبل بدء هذه الثورات؟ وهل يمكن العودة إلى ما قبل كانون الأول (ديسمبر) 2010؟
ولعل السؤال الأهم هو ما إذا كنا نستطيع قراءة ما يجري قراءة متأنية بعيدة عن العواطف والسياسات المتخندقة، واستخلاص الدروس الصحيحة مما يجري؛ إن كنا مؤمنين أن العودة إلى الوراء مستحيلة، وكنا جادين في التأسيس لمرحلة جديدة تجنبنا ما حصل لبلدان عربية أخرى، تضعنا على طريق متدرجة، وجدية، وتوافقية نحو مجتمع مزدهر اقتصاديا، ومتعدد سياسيا وثقافيا ودينيا. والأمل، كل الأمل، أن لا نكون في شرنقة نعتقد فيها أننا تجاوزنا مرحلة الخطر، وأن مشاكلنا زالت بانحسار موجة الحركات الشعبية، وأنه يمكن تبعا لذلك استمرار أو العودة إلى السياسات الريعية القديمة، وأن تحديات اليوم يمكن حلها بسياسات الأمس.
الدروس الماثلة أمامنا مما يجري في المنطقة كثيرة ومهمة. فبعد ثلاث سنوات من التحولات، بتنا أمام ثلاث قوى رئيسة في العالم العربي، هي: قوى الوضع القائم في البلدان التي لم تشهد عمليات انتقال للسلطة؛ والقوى الإسلامية التي اكتسحت الانتخابات في معظم الدول التي شهدت هذا الانتقال؛ والقوى المدنية التي حاولت الاستفادة من الثورات التي جرت لتطوير أحزاب سياسية جديدة، من المفترض أنها تعمل لتطوير أنظمة تعددية ديمقراطية تحاكي احتياجات المواطنين والمواطنات الاقتصادية، وتعمل على توسيع دائرة القرار، وتحترم الخيارات الفردية للجميع.
كافة هذه القوى الثلاث متعثرة اليوم، لأنها ما تزال مصرة على حل تحديات اليوم بسياسات الأمس. ومع الاختلافات الجوهرية بينها، إلا أن قاسما مشتركا يجمعها، وهو أنها كلها تمارس سياسة مغازلة التعددية لفظاً (في أحسن الأحوال)، فيما تمارس الإقصائية فعلا. وهي لعبة تكتشف هذه القوى اليوم أنها ما عادت تنطلي على المواطن العربي الذي يميّز الغث من السمين، والذي يريد نتائج على الأرض وليس وعودا في الهواء.
القوى الإسلامية نادت بشعار “الإسلام هو الحل”، من دون أن تترجمه إلى سياسات تفصيلية تحل مشاكل البطالة والعجز والنمو. ووعدت الناس بحكم صالح وعادل لا يميز بين الناس، فلم لم تلب احتياجات الناس الاقتصادية في مصر وتونس، ولم انتهجت سياسة إقصائية أدت إلى إقرار دستور غير توافقي في مصر، فعارضها نفس الشارع الذي أتى بها إلى السلطة، مضعفا شعبيتها ومفقدا إياها هالة القداسة التي احتمت بها وقتا طويلا؟
تديّن ومحافظة الشارع المصري لا يعنيان أنه يقبل من يريد فرض نهج حياة معين عليه، بدلا من حل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية، ومعاملته كمواطن كامل الحقوق. وقد بات ذلك جليا في مصر كما في تونس، حيث تُظهر آخر الاستطلاعات أن حزب نداء تونس المدني يتمتع بتأييد 22 % من المواطنين، بينما انحسرت شعبية حزب النهضة الإسلامي الحاكم لتصل إلى 12 %.
هذا لا يعني أن الأحزاب المدنية الناشئة في الوطن العربي أفضل حالا. إذ ظلت هذه الأحزاب تتغنى بالديمقراطية والتعددية، وتتهم القوى الإسلامية بالإقصائية، حتى مارست نفس هذه الإقصائية عند أول فرصة لاحت لها. وكما قال لي أحد الأصدقاء المصريين، فإن النقاش الدائر في الفضائيات المصرية المصرح بها اليوم، يدور فقط حول ذبح الإسلاميين أو شنقهم.
مصر اليوم مهددة بإقرار دستور جديد غير توافقي أيضاً، لتعود إلى المربع الأول. وللأسف، تحاول القوى الإسلامية والمدنية في الوطن العربي تجيير الثورات العربية لتصبح معركة بينها، فمن له الغلبة يصبح الدكتاتور الجديد؛ يمارس الاقصائية ولا يحترم التعددية والاختلاف في الرأي، فيما على مشاكل الناس الاقتصادية السلام!
أما قوى الوضع القائم، فما يزال أغلبها يرفض قراءة ما يجري من تحول تاريخي لا مجال لوقفه أو عكسه. وتحاول من تملك المال منها استخدامه لكبح جماح هذه الثورات، وما كان المال المحرك الوحيد لها. فيما تحاول القوى التي لا تملك المال القيام بإصلاحات تجميلية، عساها تنطلي على المواطن؛ فإن انحسرت موجة الحراكات ولم تنحسر التحديات عاد الحنين لسياسات الماضي وانحسر العمل حتى على الإصلاحات التجميلية. لكن ما عاد ذلك أيضاً ينطلي على المواطن.
ثمة حقيقة أثبتتها الثورات العربية: المجتمع العربي لم يعد يحتمل الإقصائية أيا كان مصدرها. وإذا أُجريت الانتخابات في تونس كما هو مخطط لها، وخسر الإسلاميون كما هو متوقع لهم، فإن الشارع العربي سيدحض مقولة ان الإسلاميين لن يتركوا السلطة متى جاؤوا إليها، وستنتهي هذه الفزاعة التي طالما استخدمتها القوى الريعية لتبرير امتيازاتها على حساب الوطن.
حان الوقت كي يدرك الإسلاميون أنه بات من الضروري تطوير خطابهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي نحو التزام واضح بالتعددية، وأن هالة القداسة ما عادت كافية لإقناع الناس أو حل مشاكلهم. كما حان الوقت كي يدرك المدنيون أن صندوق الاقتراع لا العسكر هو الطريق للديمقراطية الحقة التي تأتي بالقوى إلى السلطة وتُخرجها منها، بناء على الأفعال لا الأقوال. وبالتالي، فإن التعددية لا يمكن أن تكون انتقائية. وعندها فقط يمكن أن تعمل القوى المدنية والإسلامية من أجل تطوير مجتمعات مزدهرة وتعددية، تحتوي الآراء كافة، من دون احتكار لرأي أو إقصاء لآخر، فيصبح لهذه الثورات معنى سام، وهو أنها معركة من أجل التعددية والازدهار وسيادة القانون، لا معركة بين المدنيين والإسلاميين.
هذه دروس نستطيع، إن استوعبناها، ترك السياسات قصيرة النظر، والخروج من وهم تجاوز مرحلة “الربيع العربي”، والتوافق على سياسات طويلة الأمد؛ تشاركية ومتدرجة، لحل مشاكل البلاد، مستفيدين من مرحلة الهدوء الذي نعيش لتخطيط متأن، لا يخضع لضغط الشارع، كما لا يتوهم أن غياب هذا الضغط يعني انتفاء الحاجة للإصلاح الجاد.
إن كان هناك من درس وحيد تُعلمه الثورات العربية لكافة القوى الإسلامية والمدنية، فهو أن سياسات الإقصاء السياسي والثقافي والديني قد فشلت، وأن الاستقرار والازدهار الحقيقيين لن يتأتيا إلا لمن يعمل، فعلا لا قولا، لأجل مجتمعات تعددية بامتياز.
*نائب الرئيس للدراسات بمؤسسة كارنيغي للسلام في واشنطن العاصمة