المزيد
ما هكذا تدار العلاقات الخارجية

التاريخ : 26-06-2013 |  الوقت : 11:20:45

الصين تصعد واليابان تستأنف الصعود . الهند والبرازيل وروسيا وإندونيسيا وشيلي والمكسيك تنهض في ظل ظروف داخلية صعبة وتحديات إقليمية هائلة . إنها حقاً لمتعة لمحترفي السياسة الخارجية وهواتها متابعة أساليب إدارة هذه البلاد لسياساتها الخارجية، كل تجاه الآخر وكل تجاه دول الإقليم والدول الكبرى . اخترت للصدارة الصين واليابان ليس فقط لخبرة سابقة بإحداهما وفترة دراسة غير قصيرة عن الأخرى، ولكن أيضاً لأن الدولتين رغم الأصول الثقافية والعرقية المتقاربة، تشتركان في تجارب تاريخية مؤلمة، ولا يخفي شعباهما عجز كل منهما عن تقبل الآخر والوثوق به جاراً أو حليفاً يؤتمن . تبقى، رغم ذلك، متابعة إدارتهما لخلافاتهما درساً متجدداً في علوم إدارة الصراع . ترى في المتابعة كيف يحرص صانعو السياسة الخارجية في بكين كما في طوكيو على “تحصين” الاختلافات بينهم وخلافاتهم ضد ضغوط قوى التطرف في الدولتين، وهي قوى لها شأنها ومبررات وجودها . منها المتجذر عمقاً في ثقافة ألفية تقدس العنف ورموزه، ومنها القوميون الجدد وهؤلاء يختفون عقوداً ويظهرون في المناسبات، ويعرف السياسيون المدربون كيف يشبعون شهوة هذه القوى للظهور وإثبات الوجود بالسماح لجماعاتها بالتظاهر في مناسبة أو أخرى ضد الدولة الأخرى أو مقاطعة منتجاتها، ولكن في معظم الأوقات والأحوال، وبعد أن تفلح في تفريغ طاقتها يسرعون إلى كبح جماحها، وأحياناً نزع أنيابها .

لا شك في أنه من حق صانع السياسة الخارجية، وبخاصة المكبل بأزمة أو عدم خبرة، الاستعانة بحماسة قوى داخلية ليظهر في مفاوضاته بمظهر المجبر على التشدد أو المدعوم بالداخل . ولكنها لعبة خطرة، إذ يحدث أن يستغل الخصم الدولي هذا الشحن الجماهيري فيصعد مواقفه إلى حالة الحرب . هذا على الأقل ما فعلته “إسرائيل” مع مصر في الفترة من إبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 1967 . وقد يحدث أن يستغل الحاكم فورة الشارع لينقض على الشعب بتحول جذري في توجهات السياسة الخارجية، تحول ما كان ليفعله في ظروف عادية . هذا ما فعله الرئيس السادات في أعقاب “انتفاضة” يناير/كانون الثاني 1977 . يحدث كذلك أن يفلت عيار قوى الحشد المتطرفة فتقبض بنفسها على عملية صنع السياسة عموما والخارجية خصوصاً، وهو ما فعله المتطرفون الماويون عندما أشعلوا نيران الثورة الثقافية فور انتهاء دورهم في برنامج التثوير الاشتراكي للمجتمع الصيني .

فوجئت بقرار صانع السياسة الخارجية المصرية إقامة “سوق عكاظ” في قصر الرئاسة بهدف، كما قيل، طرح بدائل عمل في قضية السد الجاري إقامته على النيل الأزرق في إثيوبيا . أخطأ الرئيس خطأ سيحاسبه عليه ليس فقط علماء العلاقات الدولية، بل أجيال قادمة عديدة قُدّر لها أن تدفع ثمن هذا الخطأ، وهو بكل المعايير ثمن باهظ . لقد تسبب هذا التصرف، أياً كانت نية من اقترحه، في الإساءة إلى سمعة وأرصدة السياسة الخارجية المصرية . يكفينا هنا الإشارة إلى أن الدبلوماسية المصرية مضطرة الآن ولوقت قادم إلى استخدام بعض أرصدتها، وهي أرصدة متناقصة لأسباب معروفة، لتحسين الصورة البشعة لمصر التي خلفتها لدى الدول الإفريقية والعربية حادثة الحوار سيئ السمعة والمذاع على الهواء الذي انعقد في رئاسة الجمهورية المصرية .

الشيء نفسه تكرر، وإن بشكل أسوأ بكثير، في حفلات مهرجان “الإرهاب” التي أقيمت لنصرة شعب سوريا، وبدت أمام الرأي العام الخارجي أنها لنصرة “النصرة” وشبيهاتها ولو كان الثمن تفتيت سوريا وتدمير نموذج فريد لتعددية إنسانية رائعة عاشت لعشرات القرون على الأرض نفسها . هذه الحفلات، التي كانت أقرب شيء ممكن في توقيتها وأهدافها ومفردات خطابها إلى الطقوس التي كانت تمارسها القبائل الإفريقية وقبائل الهنود الحمر في الأمريكتين . كانوا يجتمعون حول نار موقدة ويرقصون رقصات الحرب ويجمعون الذهب والأموال ويحشدون الشباب ويدعون إلى الجهاد دفاعاً عن القبيلة أو لغزو قبائل أخرى .

هكذا وصف معلقون في الخارج استعدادات حكومة مصر للإعلان عن عزمها تغيير سياستها تجاه الأزمة السورية . سرى الظن كالنار في الهشيم أن التوقيت مناسب لتنفيذ خطة، وليس مؤامرة، تجتمع فيها إرادة بعض القوى السياسية ممثلة للتيارات الدينية شديدة التطرف وصادقة النية في خلط الدين بالسياسة، مع إرادة الولايات المتحد ةوالمملكة المتحدة اللتين قررتا فجأة تصعيد موقفهما اللفظي من سوريا، مع إرادة مجموعة من الأفراد استولت على عملية صنع السياسة الخارجية المصرية، اجتمعت هذه الإرادات لتفرض على القيادة المصرية حشد طاقات مصر الدبلوماسية والعسكرية والشعبية ووضعها في خدمة خط سياسي مصادره في الأغلب غير مصرية وغير متسق مع المبادئ الأساسية للمصالح القومية المصرية .

لم تتعود مصر في صنع سياستها الخارجية أن تكون العنصرية أو الطائفية أو المذهبية إحدى ركائز استراتيجيتها الخارجية، ومع ذلك بدت مصر في قضية السد الإثيوبي من خلال الحوار سيئ السمعة والوضع السوري من خلال مهرجان الإرهاب، كما لو كانت تستمد طاقتها الدبلوماسية من دافع “عنصري” متعال على اللون الأسود، لون تسعمئة مليون إفريقي، أو من دافع “طائفي” مستجد على ثقافة وأخلاق المصريين رافض في جذوره المستوردة واقع أو مبدأ وجود مصريين غير مسلمين ولا يتردد أنصاره في إعلان مسيحيي مصر كفاراً، ومسلمي مصر المعارضين للعهد القائم كفاراً، وكل الرافضين لإشعال حروب دينية في المنطقة كفاراً أيضاً .

هكذا رآنا الآخرون خلال الأيام القليلة الماضية . قال لي صحافيون أجانب كبار إن هذه الصورة عن مصر أثرت جذرياً في اتجاهات الرأي العام العالمي عن مصر . لن يتغير هذا الرأي بجهد بسيط أو في وقت قريب كما يعتقد بعض الهواة، وفي كل الأحوال إن حاولوا التغيير على شاكلة رحلة وزير الخارجية إلى أديس أبابا والخرطوم، فستكون التكلفة باهظة على جميع مستويات العمل الدبلوماسي ومواقعه، خاصة إذا استمرت تصرفات المسؤولين المصريين وتصريحاتهم تعززه . مثالنا البارز التصريح الذي أدلى به رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم عندما تعمد وضع نفسه في مقام الدولة وهاجم الإمارات كأن مصر في نزاع دولي مع الإمارات، بكل ما يحمله هذا من تهديد لسلامة واستقرار منظومة السياسة الخارجية المصرية، الدرع التي كثيراً ما حمت مصر من تجاوزات بعض حكامها .

أضف إلى تعقيدات مسيرة الدبلوماسية المصرية في أزمتها الراهنة حقيقة أن انشقاقاً وقع في جدار منظومة العلاقات الأمريكية المصرية يحظى الآن باهتمام الدبلوماسيين والمعلقين الأجانب في مصر . نتج عن الانشقاق أن أصبح لمصر سياستان خارجيتان في علاقتها بالولايات المتحدة . هناك سياسة خارجية تمارسها القوات المسلحة المصرية، لها دبلوماسيتها وأجهزتها وميزانيتها وتتعامل مباشرة مع أجهزة صنع السياسة الأمريكية كافة . هناك في الوقت نفسه سياسة خارجية ليس لها دبلوماسية معروفة أو عقل واحد أومصالح قومية معروفة، إنما تديرها بتخبط واضح أجهزة عديدة، أعلاها شأناً مؤسسة الرئاسة، وليس أقلها شأناً مؤسسات وأحزاب وفصائل التيارات الدينية وأفراد كثيرون أكثرهم لا يمثل أحداً . بعد هؤلاء جميعاً قد تأتي أو لا تأتي وزارة الخارجية المصرية .

ليس هكذا تدار السياسة الخارجية لدولة تحترم نفسها وتريد أن تنهض .



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك