مر الكلام
![]() جنيف 1971... ناولني مسؤول فلسطيني شريط الكاسيت قائلا: "استمعي إليه، أنا متأكد أنك ستحبينه فأنا أعرفك ثورجية". كان عمري 13 سنة، مجنونة بالسياسة، وأحلم بقيادة كتيبة من الفدائيين تحرر سيناء المحتلة، ثم نتوجه إلى القدس، قبل أن نعود بعد "تخليصها" لننشر الديمقراطية في العالم العربي. وضعت الشريط في جهاز التسجيل الذي كان يعد ثورة تكنولوجية وقتها لأنه متنقل ولا يحتاج إلى 3 من أبطال حمل الأثقال مجتمعين لتحريكه. وخرج صوت ونغم مختلفان تماما عن كل ما سمعته من قبل. هل خرج صوت فعلا؟.. لا، بل خرجت مصر كلها من هذا الشريط البلاستيكي الصغير. مصر بشمسها وطينها، بسجونها وزنازينها، بنيلها وقمحها، بقهرها وجبروتها، مصر بكل تناقضاتها وتناغمها، وخاصة مصر الضاحكة حتى من مآسيها. سمعت مصر تقول لي أن "مر الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر.. أما المديح سهل ومريح، يخدع لكن بيضر، والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا على الحر". كلام وموسيقى بلا زخارف، يلونهما الإحساس، ووطنية لا تتملق حاكم بل تمضي لا مبالية بالإلقاء في غياهب السجون، تلدغ بكلمات كالسوط ظهور الديكتاتوريين والخائنين والخانعين. سألت "من هذا؟"، فرد قائلا "إنه الشيخ إمام"، فقلت "وكيف لم أسمعه في مصر، ألا تذاع أغنياته في الإذاعة والتليفزيون؟". ضحك وقال "إنه ممنوع حتى من دخولهما، ومن يضبط حاملا أحد تسجيلاته يعاقب بالسجن لمدة 6 أشهر". لم أتأكد قطعيا من هذه المعلومة، ولكني كنت كلما زرت مصر حملت تسجيلاته معي وأنا أجري عملية حسابية بسيطة في ذهني. "5 تسجيلات في 6 أشهر كل واحد يساوي 30 شهرا في المعتقل، ستكون أكثر من كافية لخلق تمرد بين المعتقلين السياسيين الآخرين يحرك الشعب تضامنا معنا فيقوم بثورة ونبدأ في بناء مصر الديمقراطية الحديثة". أضع التسجيلات أمام موظف الجمارك فيقرأ عليها "الشيخ إمام" ليقول لي بفخر "بارك الله فيكي، تستمعين إلى الأئمة والدعاة بينما جيلك لا يسمع سوى الخنافس". أشعر بالغيظ من جهله، وأبادر بتعليمه من هو الشيخ إمام، ومن هو مؤلف أغنياته أحمد فؤاد نجم، لكنه لا ينصت ويسأل إن كنا نحمل "ممنوعات". .. أيها الأبله، هذه هي الممنوعات، عليك اللعنة أهدرت فرصة مصر في الثورة والديمقراطية. لسنوات، أصبح صوت الشيخ إمام، وكلمات نجم، موسيقى خلفية حياتي اليومية، حتى أن أهلي كانوا يستأذنونني قائلين "هل يمكننا أن نستمع إلى شيء آخر ولو مرة"؟! أسمع في الغربة "مصر يا امة يا بهية"، فأشعر بها واقفة بجانبي "بطرحتها وجلبيتها"، أسمعها تزعق "على الريح يواتي" فيترسخ إيماني أن الأمر كله لن يتعدى سوى "عقدتين والتالتة تابتة"، حتى تصل بهية إلى "بر السلامة" وهي بعد "صبية وبهية"، فالزمن "شاب وهي شابة وهو رايح وهي جاية". كيف يمكن أن تستمع إلى أم كلثوم ولا تحب الحب.. وكيف تسمع الشيخ إمام ولا تحب مصر؟ مرت السنوات وتبدلت السياسات ورغم عبور الجيش المصري قناة السويس، بدوني، وعودة سيناء بطريقة غير التي حلمت بها، لم يتبدل الشيخ إمام بالنسبة لي. أتابع أنباء دخوله وخروجه من السجن فأعلم أنه سيهدينا أغنية نارية أخرى من تأليف نجم، رفيق سجنه وفنه. كانت كل فرصة للقائه لا تتم في آخر لحظة، حتى كان حفل حزب التجمع لمناصرة الشرطي المصري سليمان خاطر المعتقل لقتله سياح إسرائيليين في سيناء عام 1986. غنى الشيخ إمام في الحفل، ومثلما يفعل المراهقون أمام نجومهم، ركضت لألحق به بعد نهاية الحفل. كان يحمل عوده في يمينه، ويتكئ باليسرى على يد شخص يقود خطواته الضريرة وسط الجمع الغفير. سأحكي له عن تأثيره علي، سوف أسرد كل كلام أغنياته التي أحفظ كل حرف فيها عن ظهر قلب، سوف أشركه في أحلامي بالديمقراطية فينبهر بي ويضمني إلى دائرة المقربين منه.. سوف وسوف وسوف... لكني أمسكت بيده وقلت له فقط "عم إمام، أنت عظيم أنا بحبك قوي". حتى الآن لا أتذكر ماذا كان رده على تلك الكلمات البلهاء، ولكني لا أنسى هذه اللحظة. في مايو 1995، أحيا حفلا بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. الصوت مجهد لكن الإحساس مرهف، يحملنا من مصر التي تسعى وراء قرض من صندوق النقد لأمة عربية تسعى إلى الحرية، ومن اللهاث وراء عدو الأمس إلى الحلم بشمس الغد. بعدها بنحو شهر، في 7 يونيو توفي الشيخ إمام. في يناير 2011، بحثت عنه في ميدان التحرير. أفتقده ولا أتخيل الثورة بدونه، ولم يملأ مكانه أي ممن كانوا يغنون وسط الجموع. إلى أن مررت بمجموعة من الشباب الذين ولدوا غالبا عام وفاته. سمعتهم يرددون درسه الأول لي: "مر الكلام زي الحسام". تعليقات القراء
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد
|
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
تابعونا على الفيس بوك
|