السياسة الخارجية لأي دولة تبدأ من الداخل، من رؤية الدولة لنفسها وهويتها، ولدورها الخارجي وعلاقاتها بالعالم إقليمياً ودولياً، وبحمايتها للمصالح الحيوية لشعبها، ولكيفية التعامل مع المجالات المؤثرة في كل ذلك، والممتدة إلى ساحات دول أخرى، سواء كانت حليفة، أو صديقة، أو منافسة، أو حتى خصماً .
وذلك كله لا تتم إدارته، إلا من خلال استراتيجية واضحة المعالم، تتضمن خططاً يضعها خبراء متمرسون، وخاصة من وزارات الخارجية، ما دام أن الأمر يتعلق بالسياسة الخارجية، ويشارك في صياغتها أصحاب فكر سياسي، بما اكتسبوه عبر تاريخ طويل، من الخبرة، والتخصص، والمتابعة .
ويتم ذلك بأشكال متعددة من الممارسات، منها تجهيز خطط تتعامل فقط مع الواقع القائم، أو ما هو متوقع حدوثه، بل أيضاً بوضع خيارات للتعامل حتى مع ما هو مستبعد في وقتها . ولكيلا تسجن الدولة نفسها، في حدود ضيقة، من رد الفعل، من دون أن تكون لديها قدرة على الفعل .
بل إن هناك دولاً لديها من عمق التفكير ما يجعلها توسع دائرة رؤيتها الاستراتيجية، ليس بالاكتفاء بإعداد خطوط عامة للسياسات التي تتعامل بها مع مثل هذه الظروف، بل أيضاً بإعداد مشروعات تفصيلية، تكون معدة للتنفيذ من دون تأخير .
من ذلك - على سبيل المثال - ما فعلته “إسرائيل”، حين استقلت دول آسيا الوسطى الإسلامية، عن الاتحاد السوفييتي العام ،1991 وكانت تلك الدول في حاجة شديدة إلى مَن يمد يده إليها، لمساعدتها على الوقوف على قدميها . فسارعت “إسرائيل” بأن قدمت إليها مشروعات كاملة، كانت قد أعدتها من قبل انتظاراً لهذا اليوم، تتضمن المشاركة بخبراء، ومعدات، ودراسات، للمساعدة على حل مشكلاتها في مجالات الزراعة، والصحة، والبيئة، والنقل، وغيرها . وهو ما سهل ل”إسرائيل” الوجود هناك، بعلاقات متسعة ومتنوعة، حتى قيل إن “إسرائيل” أقامت مع هذه الدول ثلاثين جمعية صداقة .
مع ملاحظة أن هذه الدول وهي إسلامية، كانت تعدّ رصيداً للدول العربية والإسلامية، في مجال العلاقات الدولية، وتوافر فرص للتعاون في مجالات اقتصادية عديدة، تعود بالفائدة على الطرفين . وكانت هذه الدول قد توجهت في البداية، نحو عالمها القريب منها روحياً، خاصة مصر، والدول العربية، لكن ما تلقته منها كان رمزياً وليس عملياً .
ومن المعروف أن الارتباط بين السياستين الداخلية والخارجية، أصبح عنصراً رئيساً في الفكر الاستراتيجي للدول، منذ أن استقر في الفكر السياسي العالمي، في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، أن القدرة الاقتصادية التنافسية، قد صعدت إلى قمة مكونات الأمن القومي للدولة، وأصبحت القدرة الاقتصادية، عنصراً مهماً في تمكين الدولة من اكتساب مكانة ونفوذ إقليمي ودولي .
وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا، قد سئل عن مفهومه للسياسة الخارجية، فقال إن الاقتصاد هو القضية المحورية للسياسة الخارجية .
ثم إن الدول الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية، قد أسست نهضتها على العلاقة المتبادلة بين السياستين الداخلية والخارجية، فالنهضة الاقتصادية في الداخل، رفعت من مكانة الدولة خارجياً، وفي المقابل صار من مهام السياسة الخارجية، تعزيز مصالح الدولة الاقتصادية، من خلال علاقاتها مع القوى الدولية .
ولما كان امتلاك الدولة استراتيجية تدير بها شؤونها الداخلية والخارجية، هو السبيل إلى تنمية قدراتها في الداخل، وتعظيم مصالحها ودورها في الخارج، فإن غياب أي استراتيجية للدولة، يسهّل لأي قوة تتحرك وفق استراتيجية واعية، اقتحام منطقة الفراغ الاستراتيجي للأخرى، ونقل التوترات والصراعات إلى داخلها، على ضوء تعارض المصالح أولاً . ولأن من طبيعة استراتيجية أي دولة، أن تتحرك في أي مجال تجده متاحاً أمامها، وحصار الدولة الأخرى بتلال من المشكلات، سواء بصورة مباشرة، أو باستغلال أي جماعات شاردة داخل الدولة، مستغلة هشاشة وعيها السياسي، أو معرفتها بإدارة سياسات القوى الدولية، وهو ما فعلته “إسرائيل”، أو قوى إقليمية أخرى، مستثمرة لمصلحتها، الاضطرابات التي تصنعها مثل هذه الجماعات في سيناء .
ولما كانت مصر لاتزال في مرحلة انتقالية، ينقصها إعادة ترتيب البيت من الداخل، وعدم امتلاكها رؤية واضحة، على مستوى التنمية الاقتصادية، وإعادة بناء الدولة، أو بالنسبة إلى غياب استراتيجية محددة المعالم لسياستها الخارجية، نتيجة تباعد النظام عن أصحاب العلم، والمعرفة، والتخصص، خاصة من رجالات وزارة الخارجية المخضرمين، ومن المفكرين السياسيين الذين تزخر بهم مصر، واستلهام التوجهات من هواة بلا تاريخ في هذه المجالات، فقد كان من نتائج ذلك، أن الشعب وكذلك الدول الأخرى، يفاجأون، بسياسات متناقضة ومترددة . وهو ما يلقي بالتبعية بآثاره، على القدرة الداخلية على البناء، والقدرة الخارجية على الإدارة السليمة للعلاقات الإقليمية والدولية . مع أن دول العالم تحرص دائماً في إدارتها للسياسة الخارجية، على إبعادها عن تأثير أي توجهات أيديولوجية مهما كانت، بحيث تديرها بناء على قواعد مهنية خالصة .
إن عدم إدارة السياسات وفق رؤية استراتيجية متكاملة، يظهر على سبيل المثال في علاقات مصر مع إفريقيا ودول حوض النيل في السنوات الأخيرة، حيث كانت تجري إدارتها في إطار وزارة الموارد المائية، مع أن الأبعاد المتعددة والشاملة لهذه العلاقة، كانت تقتضي تحركاً متكاملاً نحو إفريقيا، تشارك فيه وبصورة متناسقة، قطاعات ووزارات الدولة: الخارجية، والثقافية، والاجتماعية، والصحة، والتعليم، والزراعة، والكهرباء، والبيئة، فضلاً عن دور كل من الأزهر والكنيسة، وكأننا نعيد تشييد علاقة تاريخية مع إفريقيا على أسس، تنهض بها، وبدافع من المصالح المتبادلة .