الرؤية الحقيقية
![]() قيل: قدم أحدهم إلى قرية ما، وقبل أن يدخل أبوابها، لمح رجلاً كهلاً قاعداً عند مدخلها- وقد بدت عليه حكمة العمر الطويل- فبادر بسؤاله: "كيف حال الناس في هذه القرية؟" فأجابه الشيخ بسؤال آخر: "وكيف كان حال الناس الذين جئت من عندهم؟" فأجاب: "كانوا وضيعين بغيضين ومنافقين". فرد العجوز:"ستجدهم هنا على الشاكلة نفسها!". بعد ذلك بمدة، مر مسافر آخر فطرح السؤال ذاته على الشيخ، فأجابه بالسؤال ذاته:"كيف كان حال الناس الذين جئت من عندهم؟"، فقال المسافر:"كانوا لطفاء وطيبين وكرماء"، فرد عليه الشيخ:"ستجدهم هنا على الشاكلة نفسها". الأسئلة ذاتها لم تتغير، كذلك كان جواب الحكيم، لكن اختلاف جوابي المسافرَين هو ما صنع الفرق كلّه؛ ويبقى السؤال ماثلاً أمامنا: ما الذي يجعل "الرؤية الحقيقية" تتلاشى، لتحل محلها صورة أخرى مختلفة، قد يشوبها شيء من المبالغة وأحياناً التشويش. مما لا شك فيه أن "الرؤية الحقيقية" صعبة المنال أو قد تكون من المحال، إذ تتباين مطابقتها للواقع وتختلف كلما تأثرت بالإحساس أو بالعاطفة، التي غالباً ما تجعل الأمور الثانوية أساسية، والصغيرة كبيرة، والوهمية حقيقية، بل إنها تشوه الإبداعات وتزين التفاهات أحياناً، أو على العكس من ذلك كله. إنه الأمر الذي يدفع أحدهم ليتناقض تماماً مع "وجهة نظر" غيره من الناس حول قضية ما، بالرغم من أنهما يقفان على مسافة واحدة منها، وذلك لأن رؤيتهما في أغلب الأحيان لا تخرج عن نطاق "الإدراك" الذي تتباين مستوياته بين الناس حتماً، وهو- أي الإدراك- ليس ببعيد عن معنى "البصيرة" التي تمكننا من استبيان حقائق الأشياء أكثر من مجرد "البصر" أو "النظر" أو "الرؤية" وحسب. وقد تتأثر هذه الأحكام أيضاً، بحجم خبراتنا في الحياة، وبتاريخنا الشخصي ومدى مخزوننا المعرفي من ناحية، وبطبيعة مشاعرنا تجاه ما حولنا من ناحية أخرى، وهنا تتجلى طبيعة أخرى للمشكلة، ممثلة بالسؤال الآتي: هل يكفي حقاً أن نقيّم الأشياء ونحكم عليها من خلال طبيعة الإحساس تجاهها فقط؟ لا شك أن الأحكام التي تتأثر مقدماتها ب"العاطفة" لا تكون على درجة عالية من الدقة أو الصحة أو الواقعية، وغالباً ما تكون النتائج المبنية عليها محصورة بين كلمتين: حب أو كراهية. ومثل هذه الأحكام لا تكفي أبداً لتحقيق الفهم المطلوب. وربما أن الرؤية الحقيقة للأشياء لها علاقة وثيقة بما أخبرنا به العلماء، عن أن هناك مستويين للرؤية التي نحصل على معارفنا من خلالها، وهما: الرؤية البصرية والرؤية القلبية، وأن بين هذه وتلك يتباين كل شيء. ويتضح ذلك بالعودة إلى الإجابة التي ذكرها الشيخ الحكيم، للزائرَين الذَين حكم كل منهما بخلاف الآخر على الناس- ندرك أنه أراد القول لهما: أيها الرجلان، لم تريا بعينيكما إلا نظير ما بداخليكما!. تعليقات القراء
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد
|
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
تابعونا على الفيس بوك
|