في اللقاء الوحيد الذي جمعني بالراهب السوري الأب باولو في بيروت، وبعدما روى لنا الملامح المأسوية التي يتخذها القمع الفالت من عقاله في سورية، تحدثنا عن سورية ما بعد سقوط الأسد.
كان ذلك في العام الماضي، ولم يكن الدمار الذي لحق بحمص قد تعمم على كل البقاع السورية. قلت اننا سوف نذهب الى دمشق ونحتفل في ساحاتها، ورويت له النذر الذي التزمت به احدى الصديقات بأن ترقص حافية في ساحة المرجة. قلت له علينا جميعا ان نرقص حفاة ونحتفل.
نظر اليّ الراهب السوري النبيل بعينين حزينتين وقال لا، قبل ان نرقص، يجب ان نذهب في زيارة الى حمص ونبكي ونمسح الدم عن الشوارع.
احسست يومها بالخجل، لقد انستني فكرة سقوط النظام المأساة الانسانية الكبرى التي عاشها ويعيشها السوريون. قلت للأب باولو خجلي، ولفنا الصمت.
واليوم، وبعد ان نجح النظام السوري المستأسد في تحويل سورية كلها الى حمص، يجتاحنا الأسى، ويخيم علينا شبح الموتى الشهداء الذين لم يعد احد يمتلك تقديرا دقيقا لعددهم.
الحزن السوري هو تجسيد لمأساة علاقة العرب المحدثين بتاريخهم. تاريخ من الأسى الذي قاد في النهاية الى انفجار مأسوي، بعدما نجح الاستبداد في تحويل الدولة الى عصابة، وتحويل القوات المسلحة الى جيش احتلال.
كان الانفجار حتميا، وكان مفاجأة مدهشة، سرعان ما قامت آلة القمع الوحشية بتحويلها الى مسلسل مأسوي.
لا يستطيع السوريات والسوريون التراجع اليوم، فإما النصر وإما النصر، ولا شيء آخر.
كل كلام آخر اضاعة للوقت والجهد، الا اذا نجح الروس في اقناع حليفهم المستبد بأن اوان الرحيل قد أزفّ، وبأن عليهم ان يدعموا احتمال حل سياسي تكون قاعدته خروج الأسد وزمرته من الصورة.
لكن، وبصرف النظر عن مآل المفاوضات الروسية- الامريكية،(وهي مفاوضات لا ندري عنها شيئا، وتدعونا الى الحذر من نوايا اصحابها الحقيقية)، فليس من المؤكد ان ينجح الروس في اقناع زبونهم السوري بأي شيء من هذا القبيل، لأن الأسد تحوّل الى ما يشبه الرهينة الايرانية، ولأن ملالي ايران ليسوا قادرين على ابتلاع هزيمة الأسد، بعد كل الرهانات العسكرية والمالية، وبعد ممارساتهم التي ساهمت في اشعال النار الطائفية في سورية والمنطقة.
لكن مهما حصل، ومهما طالت المأساة، فإن النظام سيسقط، ولن يصمد طويلا، وسيمضي كابوسه المرعب الذي قتل الحياة السياسية والثقافية السورية اربعة عقود او يزيد.
لو سقط النظام غدا، فماذا سيحصل؟
المعركة المقبلة سوف تكون في دمشق الشام، وتشير أغلبية التوقعات الى انها ستكون الأكثر دموية، لأن النظام والقوى المتحالفة معه، سوف يقومون بتدمير اجمل المدن كتعبير عن حقدهم على الناس وكراهيتهم للشعب السوري.
امام ابواب دمشق ترنو عيوننا وقلوبنا، رهبة وخوفا على اهل اقدم مدينة مأهولة في التاريخ.
تقول الأسطورة ان اسم المدينة مشتق من كلمتين: دم وشقّ، وذلك عندما شقّ دم هابيل الأرض، بعد الجريمة الأولى في التاريخ.
امام ابواب دمشق، تنهض الكلمات مع نزار قباني:
'قلّ للذين بأرض الشام قد رحلوا قتيلكم في الهوى ما زال مقتولا
وددت لو زرعوني فيك مئذنة او علقوني على الأبواب قنديلا
يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي ويا قميصاً بزهر الخوخِ مشغولا
ويا حصاناً تخلّى عن اعنته وراح يفتحُ معلوماً ومجهولا
هواكَ يا بردى كالسيف يسكنني وما ملكتُ لأمرِ الحب تبديلا'
الشام مدينة الشعر التي غنتها فيروز، وتحولت مع شعر محمود درويش الى طوق الحمامة الدمشقي، حيث يلتف العاشق ببردى. هذه الشام مهددة اليوم بأن يستبيحها الموت قبيل سقوط النظام، الذي سيسقط.
امام ابواب دمشق، على الجميع ان يصرخوا بأن المذبحة يجب ان تتوقف الآن.
لقد طال الصمت، طال كثيرا يا سورية، ولا أدري كيف يجب ان يرتفع اليوم صوت يمنع نظام القتلة من اغتيال الشام.
هل هذا الموت حتمي ولا يردّ.
الن نجد في ما تبقى من الدولة والجيش في سورية من سيستمع الى صوت الضمير، ويضع حدا لهذه المأساة التي تلوح في الأفق؟
مهما يكن، فموعدنا الدمشقي آتٍ، وعندها لن تكفي كل دموع الأرض كي تمحو آثار هذه الجريمة.
عندها سوف يكون الموعد للعمل، لبناء وطن يشبه الأوطان، ويكون وطنا لكل ابنائه وبناته.
يومها يبدأ العمل الحقيقي من اجل مواجهة الأسئلة المؤجلة، وبناء سلطة مستمدة من عقد اجتماعي جديد.
هذه هي المهمة التي على المعارضات السياسية ان تبلورها اليوم، قبل ان يفاجئنا الواقع، وتجد سورية نفسها في دوامة الكراهية والتعصب والطائفية الحمقاء.
اشارة اخيرة
يقدم الأسير الفلسطيني سامر العيساوي نموذجا للتضحية والبطولة، في اضرابه المستمر عن الطعام.
سامر العيساوي الذي يجفّ اليوم امام ابصارنا، ولا تفقد عيناه بريق بيت المقدس، يضرب عن الطعام مرابطا امام الموت، ومعلنا ولادة الفلسطيني الجديد.
هذا الفلسطيني الجديد يلتقي اليوم بالسوري الجديد الذي يموت في اقبية التعذيب في السجون السورية.
سامر العيساوي هو الوجه الآخر لعمر عزيز، المثقف والمناضل السوري الذي قضى شهيدا في احد السجون السورية.
لهما، لبطولة سامر وشهادة عمر التحية والمجد.