المزيد
صناعة المجتمع المدني المتحضر

التاريخ : 19-02-2013 |  الوقت : 12:01:32

 

إن جعل المجتمع مدنياً ومتحضراً صناعة قائمة بذاتها تحتاج لكل مقومات الصناعة المتطورة للحصول على منتج بجودة عالية جداً يضمن للناس عادات حضارية لا تطغى عليها الصبغة غير المدنية، ويبعدها عن الممارسات غير الحضارية التي تطمس معالم الحياة المدنية، وأن كانت تتناسب مع الواقع الأخلاقي والقيمي في مجتمعاتهم وفقاً لقيمهم المدنية. فالمجتمع الذي يساهم بأي شكل من الأشكال سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة في دعم سياسات واستراتيجيات وعمليات تمويل ودعم مالي للإرهاب بكل أنوعه. والإمبريالية الاحتكارية والظلم والدمار وقتل الأبرياء، ولا يرفض رفضاً كلياً الابتزاز السياسي والاقتصادي والعنصرية والاضطهاد والتحزب القائم على العرق أو الدين أو القومية سواء كان من خلال شخص أو جماعة أو دولة أو تعاون أو تحالف أو اتحاد، فهو مجتمع غير متحضر.

فالمجتمعات المتحضرة المدنية لا تصبح متحضرة ومدنية فقط من خلال دستور شمولي يكفل حرية الفرد وحقوقه وضمان استقلال السلطات الثلاث وتشجيع الفنون والإبداع والموسيقى والأدب والتعلم والعلوم وبناء دولة المؤسسات واحترام القوانين والتشريعات، وتقبل الآخر وثقافته وموروثه بكل مظاهره واحترام اختلافه ، ذلك كله لا يعني بالضرورة أن الشعب والمجتمع متحضر ومدني، وهو يقبل أو يشارك أو يغض النظر عن طمس حقوق الشعوب واستعمارها أو استغلالها بغض النظر عن الطريقة والأسلوب، فهذا السيناريو بدوره يضعنا أمام مشكلة مركبة ومعقدة، وسؤال حائر يبحث عن إجابة متسائلين من هو إذن الإنسان والمجتمع المتحضر والمدني؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان مدنياً دون الضرورة أن يكون متحضراً أو العكس؟

كان النازيون يرون أنفسهم أكثر أفراد المجتمع الألماني تحضراً، وكان الغزاة على مر التاريخ ولأسباب مختلفة يرون أنفسهم محررين لشعوب مستعمرة وأنهم أخرجوهم من الجهل ومن نقص التحضر، فهم يقدمون لهم الأسلوب الأمثل للحياة الحضارية المدنية على طبق من ذهب. واليوم الغزاة نفسهم بمسميات مختلفة وتحت عباءة العولمة، يرغبون في خفض جذري في دور السياسة في المجتمع من خلال نموذج أوحد يسمى الديمقراطية... فما الفرق بين من يريد فرض هيمنته باسم الدين أو القومية العرقية أو عولمة نموذج سياسي أو اقتصادي يراه خلاصياً وإنقاذياً، ولا يقبل التشكيك فيه وعدم اتباعه ويفرضه باسم التحضر والمدنية، فهو يكفل له استمرار الاستعمار الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي وهو في الحقيقة حكم الأقلية الغنية والمثقفة للأغلبية وأحزاب يتوارثها الأبناء الأرستقراطيون مالياً أو فكرياً والذين لا يوجد بينهم وبين عامة الشعب أي تواصل يذكر، ولهم قيمهم الخاصة، فكل ما يعنيهم أنهم النخبة المفكرة أو السياسية أو مضاعفة ثرواتهم وتوسيع الأسواق الحرة والحرية الفردية مقابل الأسر الكلي المقنن والمستتر أو العكس، فهناك حلقة مفقودة في نجاح الديمقراطية الاجتماعية، والتي ترى فيها الأمم المتحدة والبنك الدولي على سبيل المثال أنها مفتاح "الحكم الرشيد"، والحد من الفقر والنمو متناسين أن المجتمع المدني المسيس، هو منتج للدولة القومية والرأسمالية التوسعية، والبعض الآخر يرى أنها تعبير عالمي للحياة الجماعية للأفراد وفقاً للتاريخ والسياق. فالمجتمع، ساحة للتداول المجتمعي، ولكن لا يمكن بناء المجتمع المدني عن طريق المساعدات الخارجية المفخخة، والتدخل المباشر وغير المباشر في تحديد مصير الشعوب والأجندات الخاصة، وهيمنة الأطروحات الإصلاحية الفوقية ومصالح لاعبي السوق العالمي والامبراطوريات المالية، ليصبح بالتالي مجتمعاً مدنياً حالة خاصة.

المجتمع المدني قد يكون أساساً للأمل والعمل من أجل المستقبل، ولكن هناك عقبات ومزالق في استخدام هذا المصطلح، الذي تم خطفه من قبل الساسة والانتهازيين حتى أصبح هناك لبس في أنه شعار سياسي أو ملجأ للعقيدة والأيديولوجية، مع الاعتراف بأن المجتمع المدني لا يعني في الواقع أشياء مختلفة لأناس مختلفين، وهو واحد من المفاتيح الحيوية للمضي قدماً لمجتمعات أكثر تحضراً، لأنه ينتقل بنا إلى ما بعد المسلمات الكاذبة، ويطلق العنان لفكرنا نحو استخدام التفكير التحليلي الراسخ بعيداً عن الضبابية التي اكتنفت هذا المصطلح هو نتيجة هوس وتفسير من البعض لما يعني مصطلح المجتمع المدني باعتباره الجمعيات التطوعية والعمل المدني التطوعي.

ولكن تطوير المجتمعات يتطلب التوافق والعقد السياسي المكتوب أو العرفي بين الشعب والحكومة، وهذا جوهر الديمقراطية، بغض النظر عن أسلوب التطبيق وتمارسها المجتمعات الخليجية منذ القدم، وكذلك العمل عبر المؤسسات المختلفة مثل الأسرة والمدرسة وأماكن العمل والكليات والجامعات، والمؤسسات الحكومية الكبيرة والصغيرة.

وضمن هذا السياق، فإن المجتمع المتحضر المدني يتطلب عملاً منسقاً بين مختلف المؤسسات في نفس الاتجاه، وتشجيع الخيارات الجماعية والمفاضلة للتفاوض، وينتهي مع وسائل التوفيق بطرق عادلة وفعالة بين أفراد المجتمع الواحد.

أول شيء يتعين علينا القيام به، هو تعزيز شروط مسبقة لمجتمع مدني متحضر صحي، من خلال مهاجمة جميع أشكال عدم المساواة والتمييز، وإعطاء الناس وسيلة ليكونوا مواطنين فاعلين، والتدرج المدروس في المشاركة السياسية وإصلاح السوق والاقتصاد، وضمان استقلال الجمعيات وهياكل الاتصالات العامة، وبناء أساس متين، لإقامة شراكات مؤسسية والتحالفات والائتلافات لدعم الابتكارات في المجتمع. ونحن بحاجة لربط الجمعيات عبر مختلف المصالح والأجندات الوطنية، وكذلك بحاجة إلى تشجيع علاقة أكثر انفتاحية بين فئات المجتمع وتلك الموجودة في القطاع غير الربحي، وعدم الانجراف خلف القشور والمظاهر ووضع مصلحة واستقرار أوطاننا أولاً، فيجب تقليل تكاليف ومخاطر مشاركة المواطنين في المشهد السياسي المسيس، ونبذ ورفض ظهور الأصوليات الدينية المختلفة والحوار المغلق. لأن تلك الأصوليات تتشابك دائماً مع أجندات سياسية وقومية توسع مساحات الفروقات والتشرذم وسوء الفهم، مع ضرورة عدم تجاهل أهمية ودور المجتمع المدني الافتراضي على الشبكة العنكبوتية... فهو محور أساسي في مجهودات جبارة في رفد عملية التنمية الشاملة والصراع من أجل امتلاك مركز وإطلالة على عالم المستقبل وعدم التقوقع في مفهوم واحد والأخذ من منبع بعينه للمفهوم الأنسب للحضارة والتحضر والمجتمع المدني وتشجيع وتقنين دور الفاعلين غير الحكوميين وغير المتحزبين في قلب الحياة المدنية وقدرتهم في الإسهام النوعي في المجهود التنموي بالدول.

وقبل كل هذا تطوير استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحضر المجتمع وتمدنه بالمعنى الحقيقي للتمدن والتحضر، إكمالاً لما هو موجود من أسس متينة في المجتمع العربي من مؤسسات وأفراد لبناء المجتمع المدني المتحضر المثالي خلال العقود القادمة.

 



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك