ليس أسعد لكاتبٍ، من أن يجِدَ تفاعُلاً مع كتابته، ولو ذَهَب التفاعُل باتجاهِ غير ما ذَهب إليه، ومن فضل الله عليَّ أن لقي المقال الذي كتبته بعنوان (الرجل الصامت)، ونشر في (الشرق الأوسط)، يوم الجمعة 29 ديسمبر 2023، أصداء طيبة، منها المقال الذي كتبه الصديق الأستاذ عبدالله ماجد آل علي في موقع 24.ae في اليوم التالي لمقالي، وعنونه: (وفضائل الكلام أكثر يا صديقي). وأشكر الصديق الأثير، على ما خصني به من ثناء في مقالته، وعلى ما أرسله إليَّ برسالة خاصة، سلّمه الله، مبدياً إعجابه بما كتبت، وهذا بعض لُطفه، وشيء من حُسن خلقه، أدام الله عليه طيب السجايا.
بدأ الزميل آل علي مقاله مُشيراً لأنني تغنيت بفضائل الصمت، ورَفَعتُهُ فوقَ مكانة الكلام. وأوافق الصديق العزيز في الأولى، ولا أوافقه في الثانية، فالثناء على الصمت، لا يعني رفعه فوق منزلة الكلام، إلا إذا نص المُثني على الصمت بأن مقتضى ما أورد من ثناء، يعني تفوق الصمت على الكلام، على الإطلاق.
وهل من عاقلٍ، يفضل الصمت على الكلام؟!
فكيف تصلنا الرسالات، والمعارف، والعلوم، والفنون، لو قَدَّمنا الصمت على الكلام؟ وذهبنا للعمل بهذا التقديم؟!
إن من نافلة القول، ومما لا أَحسبه ينبو على شريف إدراك العقلاء، ومنهم الأستاذ عبدالله آل علي، أن هذا مما لا يمكن القول به بحال.
وإذا كان الكاتب الكريم، أشار إلى أن مسيرته المهنية، كانت في مجالات الفكر والأدب والثقافة، تؤكد على أهمية الكلمة، لنقل هذه المعارف، ونشرها، مما جعله يدرك قيمة الكلمة، فلا أَحسبه وفقه الله، ينسى أن الأقدار جمعتنا، في الكثير من هذه المراحل، فقد عملنا معاً، في جائزة الشيخ زايد للكتاب منذ تأسيسها، وبقيت عُضواً في اللجنة الاستشارية العُليا للجائزة، بضع سنوات حتى استقلت، كما اجتمعنا في مشاريع كثيرة، توطدت عبرها صداقتنا التي افتخر بها.
وأحسب الأستاذ عبدالله يعرف، أن كل مسيرتي المهنية، ثلاثة عقود في الصحافة والفكر والأدب، ثم خمس سنوات في الديبلوماسية، لا يمكن لمن انتظم فيها كل هذه السنوات، أن يقوم على مهمة واحدة وهو صامت! فهل هبط عليَّ تفضيل الصمت واختياره منهجاً على حين غِرّةٍ؟!
بالطبع، لا! ولا يمكن أن يكون ذلك!
وأستأذن الصديق عبدالله، والقراء الكرام، لأنقل من مقالي، ما يؤكد أني لم أذهب لتفضيل الصمت مطلقاً، وحاشاني، فمن ذلك: "وما يُجدي، أيها السادة، أن يتكلم المرء بكلام لا تدعو إليه حاجة، فلا مصلحة تفوت إذا قيل، ولا ضرر يقعُ إذا لم يُقل، ولا خير في كلام يقال في غير موضعه". وتأكيدي على أن الكلام الذي لا يجدي، هو ما لا تدعو إليه الحاجة، وبمفهوم المخالفة، فإن ما تدعو إليه الحاجة من الكلام، يُجدي الكلام به. وإذا لم يكن خيراً في كلام يُقال في غير موضعه، فالخير فيما يقال في موضعه من كلام.
ولا أدري، هل وقف أستاذنا الماجد، عبدالله ماجد، على هذا المقطع المفصلي في مقالي، أم لا؟!
" ليس حديثنا الآنف، يا سادة، دعوة للصمت حتى الموت، ولا توجيه للصيام عن الكلام على الدوام، لكنه حَثٌ على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث، وفيه يقول أبو الفتح البستي:
تَكَلَّم وسَدِّد ما استَطَعْت، فَإِنَمَا كَلامُكَ حَيٌّ، والسكوتُ جَمَادُ
فَإنْ لم تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدَاً تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَدِيْدِ سَدَادُ".
وأُعيد التأكيد على دافع المقال كُله، كما في المقطع السابق، الوارد في مقالي: (الرجل الصامت)، ما أردته من: "حَث على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث". ومن يُجادل في أهمية الصمت حين يكون أنفع من الكلام؟ بل من يُنازع في أهمية الدعوة إلى ضرورة "تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث"؟! ثم كيف يقول هذه العبارات، من يُقَدِّم الصمت على الكلام مُطلقاً؟!
ومن له أدنى معرفة في جُلِّ كُتب المحاسن والمساوئ، يَعلم أنها في كل باب تتناوله، تُورد فيه النقيضين: ما ورد في مدح هذه الأمر، ثم ما ورد في ذمِّه، وهو من باب الإثراء والتنوع، وبيان الآراء المتعددة، والتي غالبها مرتبط، بسياقات خاصة، لا وارد على إطلاقه، دون تفصيل، أو تبرير، أو اشتراط.
ثم، هل يقول أحد، بتقديم الكلام على الصمت، إذا كان الكلام، ثرثرة، وهذراً، ورطناً، يقال بلا سبب، ويُطلق بلا داعٍ. بل هل يفضُل الحديثُ المُؤذي، الذي يقوله من يهرف بما لا يعرف؟!
لا أشك بأن الكاتب الكريم آل علي يوافقني تماماً، في رفض هذا النوع من الكلام، ويقف ضده، فانتشاره إساءة للكلام الطيب، وافتئات على كلام أهل العلم والمعرفة والأدب والفضل، ومن واجب كل عاقل رفض الإساءة لقيمة كلام النبلاء، عندما يُدافع بما يروج في بعض محافل السخافة، من كلام تافه، لا يرتقي لسمو الكلمة، ولا يوازي رُقي العبارة.
وأختم، بسعادتي بما خطه يراع صديقي الخلوق، وأؤكد على هذه الصفة بين صفات طيبة كثيرة لدى عبدالله آل علي، لأن من تمكنت منه الأخلاق، لا يُمكن أن يقبل أن يُقَدِّم تافه الكلام، على الصمت، وهذا هو لُبُ مقال: (الرجل الصامت). ثم لا يفوتني وقد استمتعت بما نقله صديقنا عن طرف من ذكرياته مع أحاديث جده الفاضل الحكيم العالم محمد بن حسن السويدي، وهو رجل سار ذكر فضله ورجاحة عقله بين مجايليه، وأتمنى على أخينا الأستاذ عبدالله آل علي أن يفيض من هذه الذكريات النافعة عن الجد الراحل، في كتابات مستقبلية. فهذا من الحديث الذي يقدم على الصمت، وعلى ما لا يجدر من الحديث، ونحن بالانتظار.