بالإضافة إلى أهمية البعد الديني لما قدّمته الهجرة النبوية من تأسيس لنهج البناء والتنمية، فقد كانت بداية لحضارة كبيرة أنارت الدنيا قروناً طويلة باللغة والمعرفة والثقافة، في وقت كان العالم فيه غارقا في الجهل والتخلف والحروب.
قدمت الحضارة العربية طوال هذه القرون سردية قائمة على المحبة والتعايش والرقي والتمدن، واستطاعت أن تنشر العلوم والمعارف، فخرج منها آلاف العلماء في اللغة والأدب والفلسفة والفلك والرياضيات والكيمياء والطب وعلم النبات والهندسة الزراعية والجغرافيا والبحث العلمي.
استمرّت الحضارة العربية طويلاً، وامتدّت من الشرق إلى الغرب واستفادت من علوم الحضارات السابقة واحترمتها، وأفادت شعوب العالم، وشجعت العلماء في الدول كافة من مختلف الأعراق والأديان. ومن المعروف أن الحضارة الغربية، قامت على أكتاف الحضارة العربية، واستفادت من ترجمة العلوم التي أسّسها وطوّرها العلماء العرب والمسلمون.
ولا يجب أن ننسى أن اللغة العربية، بما تختزنه من عوامل التعدد والتنوع والثراء والمرونة والتطور والانفتاح، كانت أساساً متيناً ومنطلقا لتلك الحضارة التي أذهلت العالم، وما زالت هذه اللغة حيّة إلى اليوم، رغم كل التحديات، وقوتها هذه هي الدليل الناصع على أن النهوض الحضاري ليس ممكناً فحسب، بل إنه واقع قائم ما علينا إلا أن ندركه ونعمل بهديه، ونتخلى عن النظرة السلبية التشاؤمية إلى ذواتنا ونحتضن لغتنا ونثق بها وبقدرتها على حملنا نحو المستقبل.
إدراك التحديات
وإذ نتذكّر اليوم ما أنجزته هذه الحضارة وما قدّمته للتراث الإنساني العالمي من ثروة لغوية ومن قيم وتقاليد فذّة، فإننا ندرك التحديات التي تخوضها في عصرنا هذا، في مواجهة أكثر من طرف يحاول أن ينزع عنها رداء المعرفة والتنوير والتقدم.فثمة طرف ينتمي إلى هذه الحضارة، لكنه ناقم عليها وعلى إنجازاتها المعرفية والثقافية وتطورها، ويريد أن يجرّها إلى الخلف عبر تفتيشه في بطون الكتب المهجورة والمجهولة ليلصق بها اتهامات القتل والتكفير والكراهية. هذا الطرف يريد أن يدمر إنجازات السردية العربية المتفرّدة، ويقدمها للعالم باعتبارها ثقافة دمار وإرهاب وتخلف.
وثمة طرف آخر لا ينتمي إلى هذه الحضارة وإن كان استفاد منها كثيراً، من علمها وثقافتها ورصيدها المعرفي الكبير، لكنه يريد أن يفرض عليها ثقافته وعاداته وتقاليده التي لا تتناسب بالضرورة مع أبناء هذه الحضارة ولا ثقافتهم ولا حضارتهم.
وثمة طرف ثالث يعترف بهذه الحضارة وإنجازاتها الماضية، لكنه لا يريد أن يراها منعكسة على الواقع الراهن، بل يريد من العرب دوماً أن يظهروا بمظهر الضعفاء والمهزومين والمتشائمين، وأن ينفي عنهم إمكانية النهوض والتطلع نحو المستقبل وترك بصمتهم في العالم المعاصر.
لسنا في موقف الضعف في الأحوال كافة، لأن ما قدّمته الحضارة العربية من زاد لغوي وثقافي ومعرفي عبر كل هذه القرون أكبر من أن تهزّه مجموعات من المتمسّكين بتلابيب الماضي، وأكبر من أن تغيره بعض الثقافات التي تخالف قيمنا الأصيلة حتى لو حاولت بعض المؤسسات فرض أفكارها مستغلة أدوات العصر الحديث من تكنولوجيا ومواقع تواصل اجتماعي وأفلام ومسلسلات وإعلام.
إحياء السردية العربية
وحتى لو تراجع تأثير السردية العربية قليلاً بسبب ضعف شابها في زمن ما، فإن دولة الإمارات تقود جهوداً كبيرة وحثيثة لإعادة هذه الحضارة إلى ما كانت عليه، وإعادة تأثيرها وقوتها وحضورها، من خلال الوعي بالأساس الصلب الذي تقوم عليه، وهو منظومة القيم الراسخة في الوجدان الإماراتي والعربي على مرّ الأجيال، والذي تعدّ اللغة العربية جزءا لا يتجزأ منه، وهذا المعنى هو ما أكده الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله حين قال إن "الإمارات تعتز بهويتها، وأصالتها العريقة، المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف، والموروث الثقافي لآبائنا وعادات وتقاليد أجدادنا، بما تجسده من قيم إنسانية وأخلاقية نبيلة، وسلوكيات حضارية رفيعة".إن ما تفعله الإمارات هو وضع الأمور في نصابها، وتقديم الحضارة العربية كما كانت عليه وكما يجب أن تكون، ودعم العقول العربية القادرة على النهوض بالعالم كله، كما أنها تقدّم رؤيتنا الخاصة للمستقبل، وخيالنا الخلاق، وسرديتنا المنحازة للمحبة والتعايش والسلام.
والإمارات لا تفعل ذلك من خلال الخطب والشعارات، بل تحرص على أن تكون البادئة والمبادرة، أي أن تكون النموذج الحيّ والملموس. ففي وجه الخطاب المهزوم حول اللغة العربية التي هي وعاء كل منجز حضاري، نجدها تطلق البادرات الخلاقة التي تؤكّد حيوية هذه اللغة وحضورها، وفي وجه خطاب التشاؤم نجدها تنشر بنجاح قلّ نظيره خطاب التفاؤل، وفي وجه الانغلاق تمارس الإمارات الانفتاح العقلاني الذي يحترم الآخر دون التخلي عن ثوابت الذات، وفي وجه خطاب الكراهية، تضع الإمارات أسساً حقيقية للتفاهم والتعايش والتسامح، وفي وجه خطاب العجز والفشل، يثبت النموذج الإماراتي احتمالات النجاح وواقعية تحقيقه والوصول إليه، هنا على الأرض كما في الفضاء.
إن أهمية ما تفعله دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال إرساء هذا النموذج الحيّ، نموذج الدولة الناجحة، المتمسّكة بلغتها مع استيعاب اللغات الأخرى وبخصوصيتها مع انفتاحها على الآخر، أنها تساعد العالم على التطور من جهة، ومن جهة أخرى تعزز اللغة والثقافة العربيتين وتحافظ عليهما وتحميهما ممن يريدون طمسهما أو تذويبهما في لغتهم وثقافتهم التي لا تتفق مع القيم والأخلاق العربية.
وليس إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، قبل سنوات عن "استئناف الحضارة" إلا دليلاً على السعي الحثيث والوعي العميق بضرورة إحياء دور السردية العربية خلال المرحلة المقبلة، خاصة في مجالات عصرية مثل ارتياد الفضاء والتقدّم التكنولوجي، وذلك لإثراء مساهمتها في مسيرة التطور الحضاري والتقدّم العلمي في العالم.
لغة وقيم
هذه المعاني التي تؤكّدها القيادة الإماراتية الحكيمة باستمرار، نجدها حاضرة في كل ما تفعله الإمارات، فأياديها البيضاء ممدودة بالخير للجميع في تأكيد على هويتها العربية وقيمها الأصيلة ودورها في استعادة أمجاد تلك الهوية، وهذا المعنى هو الذي تحرص على توصيله للأجيال الجديدة، وقد سبق أن شدّد الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية على مسؤوليتنا جميعاً ـ كأبناء لهذه القيم ـ أي جميع أفراد المجتمع، والمربين والإعلاميين، في التصدّي للأفكار التي تسعى إلى هدم كيان الأسرة، وترويج الممارسات الخارجة عن نهج المجتمع، وتؤدّي إلى تدهور ترابطه وتشويه نشأة الأجيال الجديدة، فتطرح أنساقاً اجتماعية تخالف الفطرة الإنسانية السوية وتؤدّي إلى تردّي الأخلاق والقيم الراسخة.نحترم الآخر، ونحترم ثقافته ونحترم حضارته، وفي الوقت ذاته ندرك قيمة حضارتنا وتفرد ثقافتنا، ومن هنا فإن الإمارات تنشر سردية عظيمة تربط الماضي بالمستقبل، وتمدّ اليد للأجيال الجديدة في كافة الدول العربية لكي تصل بهم إلى الغد المشرق.
ونحن نحتفل هذه الأيام ببداية عام هجري جديد، نتذكر ما قدّمته الحضارة العربية للعالم، ونحيي دور دولة الإمارات الفاعل في قيادة المنطقة بأكملها للأمام، من خلال قدرتها على أن تكون قدوة لملايين الشباب حول العالم، ودورها في الحفاظ على لغتنا وإرثنا المعرفي العظيم، وتقديمها قيمنا القائمة على التسامح والتعايش وقبول الآخر للعالم كله، وسعيها الحثيث للوصول بالبشرية كلها إلى تفاهم حضاري جديد يقود شعوب الأرض إلى التنمية والازدهار والسلام.