الرجل، وفي جميع إطلالاته أثناء حملته الانتخابية وبعدها، يبدو "تونسياً أكثر مما يجب"، فأستاذ القانون المتقاعد ذو الكفاءة التي لا يشكك فيها، نظيف اليد، صادق النوايا الوطنية، ولصيق بهموم الفئات العريضة من شعبه، الذي ضاق ذرعا برموز الفساد، وتجار الدين، والسياسة.
أما على صعيد حياته الشخصية والأسرية فلا يبالغ المرء إن قال إنه يكاد يكون الأب المثالي لأبنائه الثلاثة، والزوج المحب لسيدة مثل إشراف شبيل المتخصصة في القضاء، والتي رافقت الرئيس قيس سعيّد خلال الزيارة التي كان يؤديها إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل من أجل المشاركة في أشغال القمّة الثانية تونس الاتحاد الأوروبي، وذلك لأول مرة، حيث ظهرت معه في القصر الملكي ببروكسيل خلال لقائه مع العاهل البلجيكي الملك فيليب وزوجته.
أثنى المهتمون بالشأن البروتوكولي، وكذلك عموم التونسيين من الحريصين على المظهر اللائق لرموز سيادتهم الوطنية، على الإطلالة التي وصفوها بـ"الراقية والأنيقة"، لكن المتصيدين في المياه العكرة لم يدعوا الفرصة تفوت دون محاولة تسديد سهامهم صوب الرئيس سعيد، ولو في تفصيل بروتوكولي لا يغني ولا يسمن من جوع مثل لون فستان زوجة الرئيس.
هل سيضفي اللون الأسود الذي ارتدته سيدة تونس الأولى خيمة من الحزن على لقاءات الرئيس كما يزعم المنتقدون، ويمنع المانحين الأوروبيين من مساعدة تونس في حل أزماتها الاقتصادية؟ هل ستحول محفظة زوجة الرئيس ذات الماركة الشهيرة، أو معطفها الوثير، دون تمتين علاقات الشراكة التاريخية التي تجمع تونس بالاتحاد الأوروبي، ويعرقل ضرورة الارتقاء بها إلى مستويات تستجيب لتطلعات شعوب وشباب ضفتي البحر الأبيض المتوسط؟
متى يفرق هؤلاء المفترون بين الحرص على إظهار هيبة الدولة في أفضل تجلياتها، وبين استعراض الثراء؟ هل يريدون التستر عن الفساد بملابس يقل فيها الذوق، وتحاول التمويه عن الفساد، والثراء غير المشروع كما تفعل قيادات نسائية معروفة في حركة النهضة؟
وهكذا يمضي اللاهثون خلف التشويهات حتى تمسي التفاصيل التي يسوقونها ويعرضونها على مواقع التواصل أقرب إلى سفاسف الأمور كتلك التي ساقها صحافي قريب من حركة النهضة في ادعائه أن الصورة التي نشرتها رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا متسولا أثناء لقائها بالرئيس سعيد الذي لم يظهر وجهه بشكل واضح "رسالة متعجرفة، وليست مجرد صدفة أو عن حسن نية فكل حركة وكل لقطة محسوبة في العلاقات الدبلوماسية"، مضيفاً في نوع من التحذلق والمزايدة بالوطنيات "في دول أخرى شامخة تتسبب مثل هذه التجاوزات الرعناء في أزمات دبلوماسية.. وما فعله بوتين في ماكرون ما زال حديث العالم.. مع مراعاة الفوارق في الأحجام".
ولسائل أن يسأل بعد توسيع الحرب ضد سعيّد ونقلها إلى "الميدان البروتوكولي": ماذا نسمي تلك المشاهد التي مازالت ماثلة في أذهان التونسيين حول طريقة تعامل الرئيس التركي وأمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مع قياديي حركة النهضة حين كانوا في الحكومة والبرلمان.. ألم يكن فيها الكثير من الإهانة إلى الكرامة الوطنية والتعدي على المؤسسات الدستورية للدولة التونسية؟
الأمثلة كثيرة وتكاد لا تحصى ولا تعد في ما ارتكبه الإسلاميون ضمن خانة التجاوزات البروتوكولية، فهل جاء هؤلاء اليوم ليعلموا أستاذ القانون الدستوري كيفية التعامل مع الشركاء الأوروبيين أم أن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد رغبة في تخريب ما يبنيه سعيد ويرممه بعد أن خربه الإسلاميون برعونتهم غير المحدودة؟
وجد خصوم سعيّد من المعقدين والحاقدين طبقياً حليفاً لهم في حملتهم التي يبدو أنها أفلست سياسياً، فاتجهت نحو محاولات التشويه التي تجد في مواقع الاتصال ساحة مُثلى، وسط جمهور الغوغائيين والشعبويين والباحثين عن الإثارة الرخيصة.
صحيح أن التفتيش عن ماركات الملابس التي يرتديها الرؤساء وزوجاتهم ظاهرة منتشرة في بلاد عديدة، وذلك بدافع الفضول والهوس بمعرفة تفاصيل المشاهير، لكن في العالم العربي يأخذ الموضوع أبعاداً طبقية توظف في الشأن السياسي، وتستمد مشروعيتها من خلال نوع من الوعي المزيف المستند إلى مقاربات دينية عقائدية، تمجد الزهد والتقشف، وتبحث في مخيال شعبي عن رموز تراثية تمثل النموذج الأمثل للحاكم الصالح.
وما تشهده بلاد كثيرة في العالم من حملات تشهر بأصحاب الثروات ممن هم على رأس السلطة، إنما تهدف إلى كشف الفساد من مثيلات إميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفيلبيني الأسبق، الذي رأس بلاده عام 1965 بعد فوزه في انتخابات شابها التزوير، ودخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية بعد طردها من البلاد هي وزوجها بعد الثورة عليه عام 1986 وكان في خزانتها 3400 زوج من الأحذية.
مثل هذه الحالات تكشفها وتفضحها الصحافة كسلطة رابعة، فاعلة ومؤثرة تنشد الحوكمة الرشيدة، وليس الإثارة والبحث عن الفضائح بالتطرق إلى الحياة الخاصة وهتك الحرمات.
سيدة لها علاقة بسلك القضاء النزيه، على درجة من الثقافة والرقي الاجتماعي، تظهر بمنتهى الأناقة كسيدة أولى في المحافل الدولية، وتعطي صورة مشرقة عما وصلت إليه المرأة في بلادها، ما الذي يمنعها من اقتناء ثياب أنيقة ومن مالها الخاص أو من راتب زوجها؟
متى يفرق هؤلاء المفترون بين الحرص على إظهار هيبة الدولة في أفضل تجلياتها، وبين استعراض الثراء؟ هل يريدون التستر عن الفساد بملابس يقل فيها الذوق وتحاول التمويه عن الفساد والثراء غير المشروع.
ما هذه الشعبوية التي وصلت حد الافتراء والتدقيق في ماركة حقيبة يد للزج بها في أتون المضاربات السياسية؟