كانت الزيارة التاريخية التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلي للقوات المسلحة، إلى تركيا في نوفمبر 2021 إيذاناً ببدء مرحلة جديدة تَطوي صفحةَ الخلافات السابقة التي تلت عواصف الأحداث الكبرى التي شهدها العالم العربي بدءاً من عام 2011.

ومع أن الزيارة السابقة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد إلى تركيا كانت في عام 2012، والزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانت للإمارات في فبراير عام 2013، فإن حالةً من الفتور في العلاقات ظهرت بعد عام 2017، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تنقطع، لأن الخلافات فرضتها الأحداث الساخنة في المنطقة.

كانت دولة الإمارات قد سدت كثيراً من الفراغ السياسي والاقتصادي في العالم العربي بعد أن تعرضت عدة بلدان عربية لكوارث كبرى، وكانت حالة الاستقرار السياسي في الإمارات، ومتانة اقتصادها ومصداقية مواقفها، عوامل قد أهلتها للقيام بدور محوري بوصفها قادرةً على تشكيل رؤية إقليمية تحقق نوعاً مهماً من التوازن وتحافظ على الثوابت التي كادت تعصف بها الاضطرابات المتلاحقة في المنطقة.

ولم يكن ثمة بد من أن تجد دولة الإمارات نفسها في خضم هذه الصراعات، وكانت شديدة الحرص على التنسيق الدقيق مع المملكة العربية السعودية، وبقية الدول العربية المعنية لإيجاد حلول سياسية للأزمات التي بدأت تهدد مستقبل العالم العربي، وتزعزع كيانه.

ورغم سياساتها السلمية المسالمة فقد كانت قادرةً على الدفاع عن محيطها وعن أمن جوارها، وعن مستقبل المنطقة التي باتت مهددة بظهور تيارات معادية للأمة كلها. وكان لابد من إيجاد حلول تستعيد علاقات الأخوة بين الأطراف المختلفة، وهذا ما فعلته قمة العُلا، وما عرفته من تصالحات وتفاهمات، تتجاوز الخلافات الراهنة إلى استعادة الروابط المتينة وتقويتها.

وكانت هذه الروح التصالحية التي حققت انفراجاً كبيراً وتطلعاً ناضجاً للمستقبل، قد جعلت دولة الإمارات وجمهورية تركيا تحافظان على خط العودة، وتمتنان جسور التواصل عبر حوارات غير معلنة، ثم عبر زيارة مهمة قام بها سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني، إلى تركيا، مهدت بشكل دبلوماسي شفاف لاستعادة الحيوية السابقة بين البلدين. وقد لفتت أنظارَ المراقبين في العالَم مشهدية الاستقبال الحافل لسمو الشيخ محمد بن زايد في أنقرة، والذي جاء تعبيراً عن محبة عميقة وتقدير كبير لسموه ولمكانة الإمارات.

وعلى الصعيد الشعبي عبر العربُ والأتراك معاً عن فرح غامر بعودة العلاقات بين البلدين، ليس فقط لنتائج هذه العلاقات على الصعيد الاقتصادي، وإنما على صعيد استراتيجي سياسي واجتماعي وأمني.

ولدينا نحن العرب، كما لدى الأتراك، شعور بعمق علاقاتنا التي بدأت قبل ألف وأربعمائة عام، يوم قام الفاتحون العرب في آسيا الوسطى، بعقد أول اتفاقية عسكرية بين العرب والترك، الذين دخلوا الإسلام بعدها وامتزجوا بالثقافة العربية الإسلامية.

وقد عبرت الإمارات وتركيا معاً عن تجاوز سريع لسنوات الفتور، بالاتجاه المتسارع نحو تمتين العلاقات الاقتصادية بينهما، فقد تم التوقيع على عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم، من أبرزها مذكرة تفاهم بين وحدة المعلومات المالية في الإمارات ومجلس التحقيق في الجرائم المالية في تركيا، للتعاون وتبادل المعلومات المالية، واتفاقية تعاون بين شركة أبوظبي للموانئ، وصندوق الثروة السيادية التركي، واتفاقية تعاون بين شركة أبوظبي القابضة، وصندوق الثروة السيادية التركي، ومذكرة تفاهم بين سوق أبوظبي للأوراق المالية وبورصة إسطنبول، واتفاقية للتعاون الإداري المتبادل في المسائل الجمركية، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة، إلخ.

وكانت دولة الإمارات سباقة في خطوات استعادة العلاقات العربية التركية التي شملت مصر والسعودية، وقد سبق أن قدمت 10 ملايين دولار أمريكي للمساهمة في دعم مراحل إعادة تأهيل بعض المناطق التركية التي تضررت من حرائق الغابات والفيضانات التي اجتاحتها، معربةً عن تضامنها مع الشعب التركي.

ويذكر أن مجمل التجارة غير النفطية بين تركيا والإمارات تجاوز في العقد الأول من القرن الحالي مائة مليار دولار، وهو مرشح لنمو متصاعد خلال المرحلة القادمة. ولعل من أهم النتائج الإيجابية لنمو العلاقات الإماراتية التركية أنها ستسهم في إيجاد حلول توافقية للملفات الشائكة في كل من سوريا، وليبيا، واليمن، فضلاً عن دفع الحراك التصالحي الراهن بين تركيا وكل من السعودية ومصر.

وإذا كانت هناك خلافات سياسية عربية تركية في بعض الملفات، فإن فن إدارة الخلاف عبر حالة أخلاقية سامية، وترجيح المصالح العليا، كل ذلك سيسهم بقوة في تحقيق الاستقرار وإبعاد المنطقة عن ساحات الصراع الدولية، والحرص العام على ألا تتأثر الشعوب بالتداعيات المترتبة على أي خلاف سياسي، فما بين شعوب المنطقة من أواصر تاريخية ومصالح اقتصادية أعمق من أن تؤثر عليه الاختلافات العادية في وجهات النظر أو في تقييم المواقف.