والمؤسف أن دراسات المستقبل هي الأقل حضوراً في الثقافة العربية الراهنة، وهي لا تدعي علماً بغيب، وإنما تسعى لاكتشاف الظاهرة من خلال المعطيات الراهنة، ورؤية تحولاتها، وتعلن أنها تقدم احتمالات غير مؤكدة بالضرورة، لكن قوام الرؤية فيها هو قواعد التطور واستقراء التجارب واختبار مسارات الحدث باتجاه المستقبل، وهذا لا يلغي احتمال حدوث مفاجآت تغير المسارات.
ولا أحد ينكر احتمال حدوث شرارة صِدام بين قوى عظمى، لاسيما بين الولايات المتحدة والصين، حيث يتحول التنافس إلى مرحلة العداء، وفي الصين قلق كبير من تأجيج سباق التسلح الذي تقوده الولايات المتحدة كما تقول بكين التي شعرت بخطر الصفقات العسكرية بين أستراليا والولايات المتحدة، والتحالفات الجديدة التي جعلت الهند مثلاً تحدث جيشها، كما أن الرئيس بايدن تابع سياسة ترامب معتبراً الصين التحدي الأكبر في القرن الحادي والعشرين.
وسؤالنا المهم: أين موقع العرب من هذا التنافس الخطِر؟ وما تأثير تداعياته على منطقتنا التي تبدي الولايات المتحدة تراجعاً عن الاهتمام بأمنها وحمايتها؟
لقد فُهِم انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتلويحها بالانسحاب العسكري من الشرق الأوسط ،على أنه تفرغ للصراع مع الصين. وهذا إضافة إلى الصراع الأمريكي الروسي الذي قد نشهد تصاعده قريباً عبر قضية القرم، والحشود الروسية على حدود أوكرانيا وتداعيات الأحداث الراهنة في كازاخستان، التي قد تصل تفاعلاتها إلى دول الجوار في منطقة آسيا الوسطى.
وأمام حالة الاضطراب العام في المنطقة العربية والخلافات البينية في الإقليم، بات ملحاً أن يشكل العرب حضوراً جديداً أكثر استجابة للتحديات الراهنة والمستقبلية، وأعتقد أن دولة الإمارات كانت السباقة لإجراء مراجعات سريعة وحصيفة تعيد تقويم الحراك السياسي الدولي، وتشخص احتمالات تداعيات الصراعات وتبحث عن استراتيجية عربية وإقليمية أكثر تماسكاً.
ولئن كانت قمة العُلا قد مهدت الطريق الخليجي للخروج من الأزمات، ومتنت جسور التواصل بين الأشقاء، فإن ما فعلته دولة الإمارات برؤية تتجاوز الاستقراء السابق جاء بسرعة ديناميكية خرجت خلالها إلى استشراف مرحلة جديدة يتم فيها التعاضد العربي والبحث عن مخارج من كل الخلافات، وربما للوصول إلى مرحلة "صفر مشاكل" وإعادة بناء العلاقات في المنطقة على أسس المصالح المشتركة والتفرغ للتعاون الدولي عبر شراكات تنموية تنعكس على الشعوب، وتمد يد العون لها وترسخ بنية للسلام في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى أية حماية دولية، وتفادي خطر الوقوع في هوة الصراعات المحتملة بين الآخرين.
لقد جاء الحراك الدبلوماسي الإماراتي الممنهج ليشكل حدثاً لافتاً في سلسلة زيارات يمكن أن توصف بأنها تاريخية مثل زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد لتركيا، والاستجابة التركية الباهرة في شكل ومحتوى الاستقبال التركي لسموه، وكان قد تم التمهيد لذلك عبر تفاعل إيجابي توجته زيارة سمو الشيخ طحنون لتركيا، كما كانت زيارة سموه لإيران تمهيداً لإطفاء الحرائق التي تهدد المنطقة، وبحثاً عن الطرق الآمنة والحكيمة في مواجهة التحديات الراهنة في الخليج العربي.
ولا يزال العرب جميعاً، وأخص السوريين، يتطلعون إلى ريادة عربية تسعى لإيجاد مخرج من هوة القهر والفواجع، وينتظرون تماسك موقف عربي صارم وحاسم لتحقيق الحل السياسي للقضية السورية كما رسمه مجلس الأمن، لأن بقاء الحال، وهو من المحال سيُبقي الشعب السوري في مهب رياح الصراعات التي تجعل من سوريا ساحة حرب دولية يصعب ضبط حدود تداعياتها.
وأعتقد أن الريادة الممكنة ضمن الظروف الراهنة تقع على عاتق الدول الرئيسة، مثل السعودية والإمارات ومصر. ومع تنامي العلاقات العربية التركية، وتوقع حدوث تفاهم منطقي مع كل من روسيا والولايات المتحدة، والصين، يمكن أن يتفادى العربُ خطر الوقوع في محرقة الصراعات الدولية.