لقد كانت موقعة مؤتة(جمادي الأولى8هـ/آب 619م) أول صدام مسلح بين الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية وذلك بسبب مخالفة تلك الامبراطورية للأعراف الدبلوماسية عندما قتل صاحب بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني. رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي في مؤتة. لهذا السبب المباشر بالإضافة إلى أسباب أخرى جهز المصطفى صلى الله عليه وسلم جيشاً تعداده ثلاثة آلاف مقاتل نصب عليهم ثلاثة قادة على التوالي: زيد بن حارثة, وجعفر بن ابي طالب, وعبدالله بن رواحة, فإذا استشهدوا جميعاً اصطلح الجيش على واحد منهم لتولي القيادة, وحدث ما توقع المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ فوجيء الجيش الإسلامي بجيش عرمرم ينوف على مائة الف, فكانت معركة في غاية الشراسة. وتساقط القادة الثلاثة شهداء الواحد تلو الآخر وكادت الراية الإسلامية أن تقع على الأرض عندها هب أحد أبناء قبيلة بلي وهو الصحابي ثابت بن أقرم فأخذ اللواء, وصاح: ياللأنصار, فأتاه الناس من كل وجه, وهم قليل, وهو يقول: إلى أيها الناس, فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان فقال: لا آخذه أنت أحق به, أنت رجل لك سن, وقد شهدت بدراً, قال ثابت: خذه أيها الرجل, فوالله ما أخذته إلا لك, فأخذه خالد وتمكن في نهاية المطاف من الانسحاب إلى المدينة بأقل عدد من الخسائر بخطة عسكرية عبقرية جعلته في مصاف أعظم قادة الفتح الإسلامي. وفي غزوة العسرة (تبوك) (رجب 9هـ/ تشرين الأول 630م) التي كانت ظروف غير مواتيه من الناحية المناخية والاقتصادية, حيث كانت في عام مجدب وصيف شديد الحرارة, فضلاً عن أن الهدف المنشود ليس سهلا مقابلة الامبراطورية أعظم قوة في العالم آنذاك، فكانت غزوة تبوك محكاً جيداً لاختبار معادن المؤمنين وتمييزها عن معادن
المنافقين الذين رسبوا في الاختبار عندما ندبهم رب العزة، والرسول للالتحاق بهذه الغزوة وبذل المال والنفس من أجل الإسلام، قال تعالى : ((انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأمولكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)). لقد لبى أبناء قبيلة بلي نداء الواجب مثلهم مثل بقية الصحابة الكرام فتسابقوا إالى البذل والعطاء كل على قدر استطاعته ،، فتصدق الصحابي عاصم بن عدي البلوي بتسعين وسقاً تمراً. وجاء الصحابي سهل بن رافع بن خديج بن مالك بن غنم البلوي الأنصاري بصاع من تمر. وجاء أبو عقيل البلوي عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة بصاع من تمر، فقال مالي غير صاعين نقلت فيهما الماء على ظهري حبست احدهما لعيالي، وجئت بالآخر ،وهذا تصرف ليس غريباً على صحابي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عدو الأوثان، بعد أن كان يسمى في الجاهلية عبد العزي ،وشهد المشاهد كلها مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التصرف من قبل عاصم بن عدي البلوي ،وسهل البلوي وأبو عقيل البلوي، أغاظ المنافقين، فأخذوا يلمزون المتصدقين بألسنة حداد فقالوا عن صدقة عاصم : ماجاء بما جاء به إلا رياء وقالوا عن الصحابه الذين تصدقوا بصاع :إن الله غني عن هذا الصاع وهذا ما اكده ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير قوله عز وجل :((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لايجدون إلاجهدهم فيسخرمن منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)). وعندما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب على مسيرة شهر في تبوك ولم يلقى كيداً من الروم وقفل راجعاً، أخبره الوحي بأن المنافقين قد بنوا أثناء غيابه في المدينة مسجد الضرار وأمر أن يهدمه، فكان رسوله إلى هذه المهمه الصحابي عاصم بن عدي العجلاني البلوي، ومالك بن الدخشم السالمي فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه، فخرجا سريعين _ على اقدامهما _حتى أتيا مسجد بني سالم بن عوف ،وهم رهط بن مالك بن الدخشم، فقال مالك لعاصم :انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إالى أهله، فأخذ سعفاً من النخل وأشعل فيه ناراً، ثم خرج يعدوان حتى انتهيا إليهم بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم مجمع بن جاريه فأحرقاه _ وثبت من بينهم زيد بن جاريه بن عامر حتى احترقت إليته – وهدماه حتى وضعاه بالأرض. فلما قدم صلى الله عليه وسلم عرض على عاصم بن عدي البلوي المسجد يتخذه داراً فقال : ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً، فأعطاه ثابت بن أرقم البلوي ومن أبناء بلي الذين شهدوا غزوة تبوك الصحابي أبو الشموس البلوي الذي روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث تتعلق بهذه الغزوة وهكذا رأينا بأن أبناء قبيلة بلي لم يتخلفوا عن المشاركه بالنفس والمال في كل المعارك التي خاضتها دولة الإسلام في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسنحاول في الصفحات التاليه أن نسلط الضوء على دور هذه القبيله في نصرة الإسلام بعد انتقال الرسولصلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، من خلال الحديث عن دورهم في حروب الرده، والفتوحات الإسلامية. الثالث عشر :دور قبيلة بلي في حروب الردة : لقد بدأت القبائل العربية تتململ من سلطة الدولة الإسلامية منذ أواخر حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي لم تتعود الخضوع لسلطة مركزية واحدة, فضلاً عن ان الدين الجديد كبح من جماح شهواتها, وألغى الكثير من أعرافها التي تتناقض مع تعاليم الإسلام, فوجدت هذه القبائل فرصتها عندما انتقل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, لتعلن تمردها على سلطان الدولة الإسلامية, لا بل إنها تمادت والتفت حول مدعين النبوة من شيوخها وزعمائها, وعادت الأمور جذعة وأمست الجزيرة العربية كافرة, إلا من رحم ربي من بعض القبائل هنا وهناك, ولنا أن نتصور حجم التحدي أن المسلمين في المدينة أخذوا ينظمون الحراسات على مداخلها خوفاً من هجوم المرتدين عليها. لقد كانت قبيلة بلي من القبائل القليلة جداً التي لم ترتد وبقيت متشبثة بإسلامها, مستعصمة بتعاليم قائدها المصطفى صلى الله عليه وسلم لذا ليس مستغرباً أن نرى العديد من البطولات والتضحيات لأبناء هذه القبيلة في تلك الحروب. ومن أبطال بلي الذين سجل لهم التاريخ بكل فخر واعتزاز بطولات في حروب الردة الصحابي الجليل عبد الرحمن (عدو الأوثان) أبو عقيل البلوي أحد السابقين للإسلام كما تقدم, الذي كان في مقدمة الصفوف يوم اليمامة(12هـ/ 633م) تلك الموقعة التي حصدت العشرات من الصحابة حفظة كتاب الله, فكان أول من جرح في هذه الموقعة أبو عقيل, رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده, فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر, وجر إلى الرحل فلما حمي وطيس المعركة, وانهزم المسلمون, وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل البلوي واهن من جرحه سمع الصحابي معن بن عدي البلوي يصيح بالأنصار الله الله والكرة على عدوكم, فصاحت الأنصار أخلصونا أخلصونا, فأخلصوا رجلاً رجلاً يميزون أي أنهم أخذوا يتبايعون على الموت رجلاً رجلاً أمام معن بن عدي, ويبدو أن معن بن عدي, افتقد أبو عقيل فنادى عليه وهو لا يعلم انه جريح
قال عبد الله بن عمر(رضي الله عنهما) فنهض أبو عقيل يريد قومه فقلت: ما تريد يا أبا عقيل ما فيك قتال. قال: قد نوه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت: إنما يقول ياللأنصار لا يعني الجرحى، قال أبو عقيل: أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً, قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرداً، ثم جعل ينادي ياللأنصار كرة كيوم حنين فاجتمعوا رحمهم الله جميعاً يتقدمون الصفوف حتى اقحموا عدوهم الحديقة, فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم, قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت على الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل, وقتل عدو الله مسيلمة الكذاب. قال ابن عمر: فوقعت على أبي العقيل وهو صريح بآخر رمق فقلت: أبا العقيل, فقال: لبيك بلسان ملتاث لمن الدبرة قال: قلت: أبشر ورفعت صوتي قد قتل عدو الله, فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله, وفاضت روحه إلى السماء. قال ابن عمر : فأخبرت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد أن قدمت خبره كله، فقال : ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت من خيار أصحابي نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامه. إن ما قام به أبو عقيل البلوي صورة حية لسلوك المؤمن الصادق الذي اطمأن قلبه بالإيمان، والذي يرى بأن الشهادة أعظم فوز يحصل عليه الإنسان، فكان كما قال الفاروق (رضي الله عنه) دائم الدعاء إلى الله بأن يرزقه الشهاده، فلم تمنعه جراحاته وبتر يده من مواصلة القتال، فلفظ انفاسه الأخيره وبجسده أربعة عشر جرحاً تثغب بالدماء تشهد له امام الخلائق يوم القيامه. ومن شهداء قبيلة بلي في موقعة اليمامه، الصحابي معن بن عدي البلوي، الذي رأيناه يستنهض همم المسلمين والأنصار بشكل خاص لمواصلة القتال، فأتت دعوته ثمارها عندما انتظم المسلمون من جديد وقاتلوا عدو الله مسيلمة الكذاب فقتلوه، وبقتله كسرت شوكة المرتدين. لقد سقط معن بن عدي شهيداً مع صديقه الأثير الذي آخى المصطفى صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي ألا وهو زيد بن الخطاب أخو الفاروق (رضي الله عنهما). ومن المناسب أن أذكر بمقولة معن بن عدي مرة آخرى عندما بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا : والله لوددنا أن متنا قبله، نخشى أن نفتتن بعده. فقال معن : "إني والله ما أحب أني مت قبله حتى اصدقه حياً وميتاً " لقد بر معن بعهده واخلص لإسلامه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وخر شهيداً في موقعة اليمامه وهو يقاتل من أرادو العودة بالجزيرة العربية إلى سابق عهدها من الظلام والجهل والكفر، فانطبق عليه قوله تعالى : ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)). ويتقاطر الشهداء من قبيلة بلي في حروب الردة، ضاربين أروع الأمثله في البطوله والفداء فها هو خالد بن الوليد (رضي الله عنه) يقع اختياره على الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البلوي الذي شهد مع المصطفى كل مواقعه، والذي رأيناه ينقذ راية الإسلام من السقوط في مؤته ويدفعها إلى خالد بن الوليد، هاهو خالد يقدر كفاءة الرجل ويجعله طليعة له على المرتدين مع الصحابي الجليل عكاشه بن محصن، ليجمع له أكبر قدر من المعلومات على المرتد طليحة بن خويلد وذلك عندما دنا خالد من بزاخة. فانطلق ثابت بن أقرم البلوي على فرس له يقال له المحبر، وعكاشه على فرسه الذي يقال له الزرام، وفي أثناء جمعهم للمعلومات ويبدو أنهما اقتربا كثيراً من معسكر الأعداء، لقيهما طليحه وأخوه سلمة، فتمكنا من قتل عكاشه وثابت. وأقبل خالد بن الوليد فراعه منظر ثابت بن أقرم قتيلاً تطؤه المطي، فعظم ذلك على المسلمين، فحفر له ولصاحبه عكاشه ودفنا بدمائهما وثيابهما، وكان ذلك في سنة (12هـ /633م). لقد كان لثابت بن أقرم البلوي وعكاشه بن محصن مكانه عظيمه في نفوس المسلمين، وكان كبار الصحابه يتوجدون عليهم كلما ذكرت اسماؤهم، فهذا هو الخليفه الراشدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقابل طليحه بعد أن تاب وأناب إلى الله، يقول له : كيف أحبك وقد قتلت الصالحين عكاشه بن محصن، وثابت بن أقرم. فيرد طليحه : أكرمها الله بيدي، ولم يهني بأيديهما. وكان طليحه قد قال عند قتله هذين الصحابيين :
عشية غادرت ابن أقرم ثوياً وعكاشة الغنمي تحت المجال
وسقط كذلك شهيداً في معركة اليمامة الصحابي النعمان بن عصر بن عبيد بن وائله البلوي، الذي شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ابن حجر أن الذي قتله طليحه بن خويلد الأسدي. وكذلك سقط عبيد الله بن التيهان البلوي شهيداً في اليمام، وهو ابن الصحابي عبيد بن التيهان البلوي الذي استشهد يوم أحد وهو أيضاً أخي الصحابي مالك ابن التيهان أبو الهيثم البلوي وهو من أواءل من أسلم كما تقدم وأول من بايع يوم العقبه، فشهد المشاهد كلها من المصطفى صلى الله عليه وسلم لا بل أنه كان يقال لأبي الهيثم ذو السيفين، من أجل أنه كان يتقلد في الحرب بسيفين. واستشد كذلك الصحابي زيد بن أسلم بن ثعلبه بن عدي بن العجلان البلوي حليف بني عجلان، وهو ابن عم الصحابي ثابت بن أرقم، وكان ممن شهد بدراً، وذكر أن الذي قتله هو طليحه بن خويلد. هذا وكان رسول أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى خالد وهو باليمامه الصحابي شريك بن سمحاء (وهي أمه) واسم أبيه عبده بن ابن معتب بن الجد بن العجلان البلوي حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك من الرضاعه شهد مع أبيه احداً، فقد بعثه الصديق (رضي الله عنه) إلى خالد بن الوليد (رضي الله عنه) يطلب منه أن يسير من اليمامه إلى العراق، وكان شريك أحد الأمراء بالشام في خلافة الصديق، وبعثه الفاروق كذلك رسولاً إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجه إلى فتح مصر. ومن المتعارف عليه أنه لايختار إلى السفارة ونقل الأوامر المهمه إلا الثقاة، وتكليف شريك البلوي بتلك المهام دلاله على أنه كان من أهل الشورى في المدينة المنوره وإلا ما الذي يقعده في المدينة والجبهات ملتهبه ضد المرتدين، ويتكرر الموقف أيضاً في عهد الفاروق (رضي الله عنه) ليؤكد هذه الفرضية، فضلاً على أن الأعراف في ذلك الزمان كانت تقضي بأن يحمل أوامر الخلفاء والحكام، خيرة القوم، عقلاً وشجاعة ومكانه اجتماعيه، وكان ينظر لمن يكلف بذلك نظرة تقدير وأحترام. أجل لقد أثبتت الأحداث ولاء قبيلة بلي للدولة الإسلامية وثباتها على عقيدتها، وعدم بخلها بأبنائها من أجل رفع راية الإسلام، فأبناؤها دوماً في مقدمة الصفوف يحرصون على الشهادة مذكرين إخوانهم بأن الله معهم، وبأن الشهاده أسمى أمنية يتمناها الانسان . ا