‘‘التربية‘‘ ونتائج ‘‘التوجيهي‘‘: نجحت العملية.. ومات المريض!
في قراءة هادئة لكرنفال وزارة التربية والتعليم بإعلان نتائج امتحان شهادة الدراسة الثانوية للعام 2016، يمكن ملاحظة مدى الاعتزاز، وفخر مسؤول الوزارة، وهو يقدم أرقاماً حمالة أوجه، ما عدا أي وجه إيجابي، فالاجراءات مضبوطة، وطرق التدريس قد تحسنت، والكتب الجديدة تطورت، والطلبة لم ينجحوا!
وقبل البدء بتحليل أرقام الوزارة وتفسيراتها لأرقامها، أقدم الملاحظات الآتية:
1 - إن نسب النجاح في أي امتحان أردني أو غيره، تعتمد على عوامل سياسية، لا يقررها مستوى الطلبة وحده، فأي فاحص قد يعد امتحاناً لا ينجح به أحد، أو لا يرسب فيه أحد! فلو سألنا معالي الوزير عن المدرسة التي حصلت على أعلى معدلات العام 2001 مثلاً، لما نجح في الإجابة، وهذا لا يعيبه طبعاً، لأن السؤال تعجيزي!
2 - إن امتحان الثانوية العامة قرار سيادي، يمس الدولة وهيبتها، ولذلك لا يجوز أن تقرره الوزارة بمفردها! ولدى الوزارة مجلس تربية والتعليم مكون من شخصيات يفترض أن تكون تمثيلية، فهل تم عرض سياسات الامتحان ونتائجه على المجلس!؟ طبعاً لا أثق كثيراً بهذا المجلس، لأنه لم يثبت أنه فاعل حتى في مناقشة قضايا بديهية في الكتب المدرسية، لكن أليس من حق المجلس، بل من واجبه، مناقشة سياسات الامتحان؟
3 - إن أي ظاهرة أو حدث لا يمكن تفسيره بسبب واحد، فالعوامل متعددة ومتشابكة، فنسب النجاح أو الرسوب مثلاً تتأثر بعوامل اجتماعية، وتربوية، وسياسية، وأمنية، واقتصادية وبيئية وغيرها، ولا يمكن الجزم بأهمية أحدها دون دراسة علمية لعزل بقية العوامل، فكيف تتسرع وزارة، تهتم بالبحث العلمي، بربط نتائج ما بتحسن طرق التدريس؟!
وعلى ضوء ذلك، فإن من المناسب قراءة نتائج امتحان التوجيهي، وتفسيرات الوزارة المتعالية لها، وربما الفخورة بها، وفق النقاط الآتية:
1 - تفوق المدارس الحكومية، و"تخلخل" المدارس الخاصة.
2 - تباين مستوى طلبة العلمي والأدبي.
3 - ارتفاع نسبة الراسبين.
4 - التباين الهائل بين من قدموا طلبات للمشاركة في الامتحان وبين من شاركوا فعلاً.
أولاً: تفوق المدارس الحكومية على المدارس الخاصة:
إن وزارة التربية والتعليم مسؤولة في مناهجها وإشرافها عن جميع المدارس: حكومية وخاصة، ولذلك أضع الاعتبارات الآتية:
1 - هل تضع الوزارة نفسها مسؤولة عن المدارس الحكومية دون الخاصة؟ وهل تشكل المدارس الخاصة عقدة لدى الوزارة ومسؤوليها؟ وهل هناك تنافس في ذهن معالي الوزير بين المدارس الخاصة والحكومية؟ وهل انتهى التنافس بسحق المدارس الخاصة، واحتلال المدارس الحكومية المراكز المتقدمة؟
2- وإذا كان هناك تراجع لدى المدارس الخاصة، فمن المسؤول عن هذا التراجع؟ ولماذا هذا التراجع؟ وهل درست الوزارة أو ستدرس أسباب هذا التراجع؟ علماً بعدم وجود أي مؤشر على تراجعها.
3 - تفخر الوزارة بلسان معالي الوزير بأن المراكز السبعة الأولى من كل عشرة في النتائج هي لطلبة المدارس الحكومية! وهل تم ذلك بالصدفة، 7 من 10 من أوائل العلمي وأوائل الأدبي من طلبة المدارس الحكومية؟
4- وهل تمتلك الوزارة وصفات سحرية للتفوق وللمراكز المتقدمة، ووصفات سحرية لرفع مستوى مدارس، وخفض مستوى مدارس أخرى؟ إذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا لم تعط وصفات مماثلة للمدارس التي لم ينجح فيها أحد؟
إن تفسيري مثلاً لهذه الظاهرة - وأنا أفسر مثلي مثل أي مسؤول في وزارة التربية، لأنني مثلهم لا أملك دليلاً على ما سأقول، لكنهم كانوا أكثر جرأة مني في التفسير والربط، وربما الاحساس بالعزة غير المبررة-، فأقول في تفسيري:
نعم! طفشت المدارس الخاصة من امتحان التوجيهي، وطفش طلابها المتفوقون نحو برامج الثانوية العامة الاجنبية: الانجليزية والاميركية، كما طفش طلابهم الى السودان!
فكم مدرسة خاصة قلصت اهتمامها بالتوجيهي الاردني؟ وكم طالباً متفوقاً ذهب الى البرامج الأجنبية "ليخلي الميدان لأبي حميدان"!!
إذن، طفش متفوقو المدارس الخاصة نحو التوجيهي الاجنبي، وبحسب معلوماتي، فإن معظم المدارس الخاصة في عمان الغربية تقدم برامج اجنبية وشهادات اجنبية!
وطفش عدد من طلابنا، المتوسطين والضعاف، نحو السودان وغيرها للتخلص من امتحان يرسب فيه آلاف الطلاب!
ثانياً: هل تفوق الطلاب الباهر ظاهرة فردية أم بيئية؟
إن وجود العباقرة قد لا يعتمد على بيئة معينة، فالبيئة قد تعد أبطالاً او جبناء، متفوقين أو غير متفوقين، فالعبقري "نسج وحده"، قد يستفيد قليلاً من البيئة، لكن البيئة وحدها قد لا تستطيع قتل عبقريته!
وأنا طبعاً لا أقول إن الأوائل عباقرة، ولكن لا شك انهم اكثر قدرة على الحفظ وربما الفهم، وهذا يتطلب ذاكرة قوية أو تدريباً على التذكر، ولكن سمعنا إحدى الاوائل تقول: درست عشر ساعات يومياً! يعني انها ضحت بكل متعة وكل خفقة حياة، وكل تواصل من أجل التفرغ الكامل لمشروع تفوقها! وهذا حقها على أية حال.
والسؤال: اذا كانت المدرسة - وطرق التدريس التي حسنها معالي الوزير- مسؤولة عن التفوق، فلماذا انخفضت معدلات الطلبة ومعدلات النجاح؟!
اما حكاية المناهج الجديدة، التي طورت، فالكل يعرف ان المناهج لم تتطور، ولم يتغير منهج واحد! نعم غيرت الوزارة كتب الصفوف من 1-6، والصف التاسع، وهذه كتب لم يدرس أيا منها طلبة التوجيهي لهذا العام، ولا العامين القادمين؟ فكيف تدعي الوزارة ان المناهج الجديدة -ولا وجود لمناهج جديدة- هي المسؤولة عن التفوق؟
انه استنتاج كاستنتاج عالم الأحياء، الذي قص جناح الفراشة، وأمرها ان تطير فلم تنفذ الامر، فاستنتج ان الفراشة قد فقدت حاسة السمع!
وخلاصة الامر، ليس هناك دلالة نحو تحسن التعليم، لأن نسب النجاح ما زالت نادرة وقليلة، ومتوسط المعدلات لم يتحسن! وأي تحسن ذلك الذي ينتج آلاف الطلبة الراسبين!؟ وان انخفاض وجود طلبة مدارس خاصة بين العشرة الأوائل ما زال على أي حال مناسباً لأعداد من تقدموا منهم لامتحان التوجيهي. وعلينا أن نراعي أن المدارس الخاصة قد كلفت معلميها المتفوقين بتدريس طلبة البرامج الاجنبية، وهذا لا يعني اننا نغمط حق مدارس الحكومة وطلابها في التفوق!
ثالثاً: تباين نسب النجاح بين العلمي والأدبي:
لو كان هناك صلة بين تحسن المناهج وطرق التدريس، وبين نتائج الطلبة، لشاهدنا تفوق كل من طلبة العلمي والأدبي. ولو كانت إبداعات الوزارة في ضبط الغش وإعادة هيبة الدولة هي العامل المؤثر، لتأثر بذلك طلاب العلمي والأدبي والصناعي. ولو كان جهد الوزارة في تدريب المعلمين مؤثراً لتحسن طلبة العلمي والادبي!
إذن، ما تسميه الوزارة من تحسن ليس دقيقاً، وما تفسره من اسباب التحسن ليس صحيحاً، فلا يحق لأحد التنافح بأن اجراءاته في "تهييب الامتحان" هي المسؤولة.
فالدولة أعادت هيبة الامن، وهيبة موظفيها، وهيبتها الجمرك وهيبة مؤسساتها كلها، فالهيبة هي قرار دولة، وليس قراراً فردياً، فالدرك، والدرك وحده هو من قام بالواجب!
وعودة الى تباين نتائج العلمي والأدبي، فإن أي امتحان يجب أن يكون له معياران: مستوى المنهج ومستوى الطالب. فالامتحان يقيس اهداف المنهج، والمنهج يعد الطالب لأمور عديدة بينها الامتحان، فأي امتحان لا يراعي مستوى الطالب هو امتحان غير صادق وغير ثابت، ويكون الامتحان ثابتا إذا كانت درجة صعوبته عالية جدا، ولكنه لا يكون صادقا. فماذا يعني ان تنخفض نسب النجاح؟
1 - ان الطلاب مهملون، ولكن اليست مسؤولية المدرسة والمنهج معالجة إهمالهم؟
2- ان الطلاب ضعاف، ولكن اليست مسؤولية المدرسة والمنهج ان يراعيا مستويات الطلبة، وان يرفعا من مستوياتهم؟
3 - ان الامتحان صعب، وهذا يعني ان الوزارة وضعت امتحانا لطلاب غير طلابها، او ان الوزارة لا تعرف مستوى طلابها؟
ان المنحنى الاعتدالي -وهو غير مقبول حاليا- لكن وزارة التربية والجامعات ومعظم خبراء التربية والعلوم الانسانية يؤمنون به، يتضمن ان الناس او الاشخاص او النتائج يجب ان تتوزع بين: - درجة عالية جدا أو اذكياء جدا. - درجة متوسطة تعادل 68 %- فوق الوسط وحول الوسط. - درجة منخفضة جدا تعادل العالية جدا، اي ان 16 % يفوقون الوسط
و 16 % اقل من الوسط.
فهل راعى امتحاننا هذا التوزيع؟ علما بأن طلابنا ليسوا عينة عشوائية، لأن المدرسة علمتهم اثنتي عشرة سنة، وغربلتهم، وليس فيهم اغبياء جدا ولا اغبياء. اذن الامتحان هو الذي كان غبيا، لا غير!!
فالتباين ووجود راسبين عديدين في الفرع الادبي هو مسؤولية الامتحان، لكن لماذا تعمد الوزارة الى ترسيب الطلاب؟ هل لديها اجندة خفية؟ هل يمكن ان الوزارة تحاول تجفيف الفرع الادبي، وتطفيش الطلاب ليذهبوا الى التلمذة المهنية في وقت مبكر من الصف العاشر؟
إذا كان الجواب نعم، فإن الوزارة تستخدم طلاب الفرع الادبي الحاليين اداة لتوجيه الطلاب الى التلمذة المهنية بعيدا عن التوجيهي، حيث لا امل لهم بالنجاح! مع اني استبعد ذلك، لأن الوزارة ليست مشهورة بالتخطيط الهادف بمقدار شهرتها بقرارات فردية.
رابعا - الترسيب وزيادة نسب الرسوب:
ان ارتفاع نسب الرسوب لا يفسر الا انه ترسيب، وترسيب مقصود، ولعل الارقام الآتية تفسر حجم المأساة الحالية:
بلغ عدد المشتركين في امتحان شهادة الدراسة الثانوية في جميع الفروع: 127872 طالبا وطالبة، وكانت نسبة النجاح 40٪، وهذا يعني ان 767232 رسبوا في الامتحان.
وها يمكن عرض الحقائق التالية:
1 - هؤلاء الراسبون درسوا اثنتي عشرة سنة على الاقل في مدارس وزارة التربية او المدارس الاخرى، وان هذه الفترة الطويلة لم تزودهم بما يمكنهم من النجاح.
2- ان التفاوت بين نسب الرسوب في الفروع المختلفة كبير جدا، من 72 - 60 % وهذا قد يعكس تفاوتا في مستويات صعوبة الامتحان، او عدم ملاءمة الامتحان، والا لماذا يرسب طالب زراعي درس سنتين في تخصصه؟ او طالب فندقي او غيره؟
3- ان انتشاء معالي الوزير بوجود سبعة اعشار الاوائل من طلبة المدارس الحكومية، لم يقابله حرقة او حسرة على زيادات هائلة في اعداد الراسبين!
4 - نرجو ان يعلن الوزير عن نسب الرسوب في المدارس الحكومية والمدارس الخاصة المحترمة، لكي يعرف المجتمع حقيقة الارقام او التفوق الحكومي الذي اعلن.
5- كما ارجو ان يعلن معاليه معدل تحصيل الطالب في المدارس الخاصة والمدارس الحكومية، وهل هو لصالح مدارس الحكومة.
6- ماذا يعني رسوب عشرات الالاف من الطلبة؟ ما مصيرهم؟ ماذا كان يضير الوزارة لو نجحوا واخذوا شهادات التوجيهي، لكي لا يصنفهم المجتمع من الفاشلين؟ لا يطالب احد "بتنجيح" الراسبين، ولكننا نطالب بعدم ترسيبهم من خلال امتحان يناسب مستوياتهم.
***
واخيراً، فإن إدارة الامتحانات تتطلب وعياً سياسياً واجتماعياً وتربوياً، ولا يكفي ان نقول "عملنا ما علينا والباقي على الله"، او نقول "نجحت العملية ومات المريض وهذه هي الحياة"!!
آن الأوان لرفض التفسيرات غير العلمية، ونسبة النتائج الى غير اسبابها الحقيقية، وأن نفكر باسلوب علمي، بعيدا عن الانتشاء بآلام الطلبة والمجتمع.
إن تفوق الطالب بشكل لافت لا يعتمد على مدرسته او معلميه، ففي الشونة الجنوبية تفوق طالب بمعدل 97.8، علما بان مدرسته لا يتوافر فيها الحد الادنى من مقومات النجاح، وان نسبة النجاح فيها 14 %. وهذا وحده يدعونا لتفسير النتائج باسبابها لا ببطولات وهمية، وإنجازات زائفة يدعيها مسؤولون!
رابعا: التباين بين من قدموا طلبات المشاركة ومن شاركوا فعلا:
تقدم 127872 طالبا وطالبة بطلبات المشاركة في امتحان التوجيهي، ولكن من شاركوا فعلا هم 80747، وهذا يذكرنا بأعداد المسجلين في قوائم الانتخابات، وبين من شاركوا فعلا. نحن نفهم ان الناخبين امتنعوا عن التصويت لاسباب تتعلق بنزاهة الانتخابات، او بذكرياتهم المؤلمة عنها، فهل امتنع الطلبة عن المشاركة في التوجيهي لنفس الاسباب؟ أم لأسباب اكثر قسوة؟
كيف يمر مسؤول عن هذا الرقم المرعب دون تفسير؟ لقد اخذته النشوة بتفوق سبعة اعشار الاوائل من طلبة الحكومة على حساب طلبة الخاصة وكأنهم اعداء، ونسي ان يتوقف عند هذا الرقم!
ان امتناع الطلبة عن المشاركة في الامتحان ظاهرة قد تكون جديدة، ولكن حجمها مثير ولافت، فهل وصل اليأس والاحباط بطلبتنا الى هذا الحد؟ ومن المسؤول؟
ان الوزارة والوزير مطالبان من قبل المجتمع بتفسير هذا الرقم، وهل هذا انجاز؟
لقد طفش طلابنا الى البرامج الاجنبية، وطفش بعضهم الى السودان، وطفش 40 الفا منهم نهائيا لعدم قدرتهم على السفر الى السودان او الى الالتحاق ببرامج أجنبية!
الدكتور ذوقان عبيدات
الغد