المزيد
كتاب جديد عن "سينما سيرجي باراجانوف"

التاريخ : 13-12-2014 |  الوقت : 11:53:14

وكالة كل العرب الاخبارية

 

"في معبد السينما، هناك صور، وإضاءة، وواقع، وكان سيرجي باراجانوف سيد هذا المعبد"، هذا ما قاله المخرج والمُجدد السينمائي الكبير جان لوك جودار، واصفاً الجورجي المولد والأرميني الإقامة والوفاة سيرجي باراجانوف (1924 – 1990)، أحد أهم العلامات الفارقة في تاريخ الفن السينمائي حتى يومنا، والذي اعتبر بجانب الروسي العظيم "أندريه تاركوفسكي" من أهم المخرجين المجددين في السينما السوفيتية في فترة ما بعد الحرب، والسينما العالمية قاطبة.

وصدر خلال هذا العام كتاب بعنوان "سينما سيرجي باراجانوف" لجيمس ستيفن، صدر عن سلسلة ويسكونسن للدراسات السينمائية، رصد فيه المؤلف كل ما يتعلق بالحياة الغامضة لهذا المخرج وأوضح الكثير من الأمور الملتبسة عن حياته، وقبل كل هذا، أفلامه وظروف صناعتها وتحليل نقدي رصين لها، ولا تنبع أهميته هذا الكتاب من كونه فحسب عن أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما، بل لأنه وللغرابة أول كتاب يكتب بالإنجليزية عن حياة وأعمال هذا المخرج المثير للجدل.

يحتوي الكتاب على ثمانية أقسام رئيسية جاءت على النحو التالي: "أصول الفنان: أفلام الشباب وبواكير الأفلام الأوكرانية"، "ظلال الأسلاف المنسيين: النهضة الأوكرانية"، "جداريات كييف: الفيلم الذي كان ممكناً"، "لون الرمان: صناعة وعدم صناعة فيلم"، "سنوات صامتة: سيناريوهات لم تنتج 1967 – 1973"، "منفى داخلي: اعتقال وسجن 1973 – 1982"، "أسطورة قلعة سورامي: الرعد فوق جورجيا"، "أشيك كريب: نهاية مهنة".

ملاحظات على الترجمة
وأوضح المؤلف في مدخله السابق على المقدمة وفصول الكتاب، والذي جاء بعنوان "ملاحظات على الترجمة"، أنه تنقل بين 4 لغات استقى منها معلوماته ونقل عنها مصادره، وهي الأرمينية والجورجية والروسية والأوكرانية، وثلاثة أحرف لغوية متباينة في رسمها، يُكتب وينطق بها اسم باراجانوف بشكل مختلف، وهذا نوع من التحدي يحسب له دون شك، ويوضح لنا مدى حرصه الشديد وإتقانه من أجل خروج الكتاب في أكمل صورة ممكنة.

كما بيّن المؤلف في ثنايا مقدمته أن الكتاب ليس سيرة لحياة باراجانوف، فتلك سيخصص لها كتاباً بمفرده، لكنه يحتوي على الكثير من سيرته، ويكشف النقاب عن العديد من القصص الأسطورية غير الصحيحة في معظمها التي نسجت حول باراجانوف وأفكاره وأفلامه ومواقفه المعادية للسلطة والناقدة للمجتمع، وكيف أن الأمر برمته مرده في النهاية إلى أن السلطات السوفيتية في ذلك الحين كانت، وعلى نحو يشوبه الحذر الشديد، تسلط الضوء على الثقافات الإقليمية العرقية، لكن بالطبع وفقاً لرؤيتها الخاصة، التي كانت مغايرة لما قدمه باراجانوف، الابن المخلص العليم المتشبع بجذور وثقافات وتراث تلك المنطقة، الأمر الذي أدى بالتأكيد لإزعاج السلطات السوفيتية كثيراً، فاتهمته بتزييف واختلاق طقوس وتراث تلك المنطقة، وهو ما أثار ضده الغضب في موطنه جورجيا، على سبيل المثال، عندما صنع فيلمه "أسطورة قلعة سورام" (1984)، الذي اتهموه بتشويه وتلويث التراث والأساطير المحلية بتأثيرات أرمينية وفارسية، كما امتد الأمر في بعض الأحيان إلى حظر أفلامه وحتى حذف أجزاء منها.

ويتناول الفصل الأول "أصول الفنان: أفلام الشباب وبواكير الأفلام الأوكرانية"، الفترة التي قضاها المخرج بأوكرانيا حيث صنع أفلامه الأولى في استوديو "كييف دوفجينكو"، وهي في أغلبها غير مهمة في مسيرته المهنية، والتي وفقاً لأحد المخرجين الأوكرانيين، طواها النسيان مثلها مثل غيرها من الأعمال الكثيرة التي صنعها العديد من المخرجين السوفيت بالاستوديو، وأنه لولا موهبة باراجانوف لنسي كغيره من الذين مروا بالأستوديو وصنعوا أفلاماً به، بالرغم من أنه كان يُعرف في الاستوديو بأنه "أسوأ شخص على الإطلاق في كييف دوفجينكو".

استكمال الأفلام
والمثير في هذا الفصل، الذي يطلعنا على تلك الأعمال المجهولة لباراجانوف، معرفتنا بإقدامه على استكمال أفلام تعذر إكمالها بواسطة مخرجيها الأصليين، كما كشف لنا المؤلف عن بعض الجماليات البصرية فيها، والتي حملت البذور الأولى لما سيتطور لاحقاً كأسلوب خاص مميز للمخرج، جنح فيه بشكل أساسي إلى الأساليب البصرية والسينمائية الخالصة ليستعيض بها عن تدفق السرد والحبكة التقليدية والشخصيات المتعارف عليها.

وكيف أنه وبالرغم من انتماء باراجانوف للنخبة الثقافية في أوكرانيا وأنشطته الطليعية ومشاركته في الشأن السياسي والفني، والاستحسان الذي قوبل به فيلمه "ظلال الأسلاف المنسيين" (1964) من جانب القوميين الأوكرانيين، تعرض هناك للمضايقات والاتهامات التي اضطرته في النهاية لمغادرة أوكرانيا والاستقرار في جورجيا، وبذلك أنهى المؤلف الفصل الثاني، "ظلال الأسلاف المنسيين: النهضة الأوكرانية"، الذي تناول فيه تلك الفترة المهمة في حياة باراجانوف في أوكرانيا وذيوع اسمه عالمياً واختتم أيضاً بتحليله النقدي العميق والمطول لـ "ظلال الأجداد المنسيين"، أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما ومسار باراجانوف المهني.

وناقش الكتاب على نحو مُفصّل أعمال باراجانوف السينمائية والتسجيلية، بالإضافة إلى الأعمال غير المكتملة، والتي خصص لها فصلاً كاملاً، "جداريات كييف: الفيلم الذي كان ممكناً"، كشف فيه الستار عن تلك الأفكار الأولية والمشروعات والسيناريوهات مثل "جداريات كييف" (1966) الذي توقف العمل فيه عند مرحلة كتابة السيناريو والرسومات والتخطيطات الأولية للتصوير، أو فيلم "العاشق" الذي لم يكتمل تنفيذه وكل ما تبقى منه هو مجرد لقطات كانت نتاج ثلاثة أيام تصوير فقط ولم يصل لمرحلة التنفيذ النهائية.

روح المثابرة
ويُبرز تأثير هذا كله على المخرج من واقع مذكراته وملاحظاته التي كتبهاـ وبرغم الصلابة التي بدا عليها باراجانوف في مذكراته وإظهاره لروح المثابرة وعدم النزوع لليأس والاستسلام، إلا إن هذا الفصل يعتبر أكثر فصول الكتاب إثارة للحزن على إعاقة تلك المشاريع عن الخروج للنور.

أما فصول الكتاب التالية، "لون الرمان: صناعة وعدم صناعة فيلم"، "سنوات صامتة: سيناريوهات لم تنتج 1967 – 1973"، "منفى داخلي: اعتقال وسجن 1973 – 1982"، "أسطورة قلعة سورامي: الرعد فوق جورجيا"، "أشيك كريب: نهاية مهنة"، فلا تقل أهمية وحزناً على ما تعرض له باراجانوف من اضطهاد وسجن لفترات طويلة امتدت من عام 1973 وحتى عام 1982، وكيف أنه أمضى إجمالاً ما يقرب من 15 عاماً إما عاطلاً أو مسجوناً.

ورغم أنه لم يتوقف قط عن ممارسة الكتابة والإبداع والتحضير لتنفيذ أفلام وكيف نجحت بعد ذلك، الحملة الدولية التي أثيرت تضامناً معه، في إطلاق سراحه، بعدما قضى بالسجن آخر مرة 4 سنوات متتالية.

كما سلطت الفصول الضوء على الجانب الخفي المتعلق بالرقابة في الاتحاد السوفيتي وتأثيرها على أعمال المخرج وعلاقة باراجانوف الدرامية بالسلطات السوفيتية آنذاك والتي كانت تهدف من ورائها إلى إذلاله وتدميره، وكيف أنه كان يواجه كل هذا في سخرية وتحدي للسطلة وقراراتها، ويتوقف الكاتب عند تلك القصة الذائعة الصيت التي أطلقها "الكي جي بي" عن باراجانوف لتبيان مدى صحتها واتخاذها كذريعة ضد المخرج، حيث كانت الدولة السوفيتية طلبت منه معلومات سرية بغرض نشرها في "الموسوعة السوفيتية الكبرى"، فما كان منه إلا أن أجاب: "أخبروا قراءكم أنني تُوفيتُ عام 1968 جراء سياسات الإبادة الجماعية التي اقترفها النظام السوفيتي".

لون الرمان
وبرع المؤلف والناقد "جيمس ستيفين" في تحليل تحفة أخرى من تحف باراجانوف، وهي فيلمه "لون الرمان" (1969)، ويطلعنا على ما تعرض له هذا الفيلم من جانب السلطات وكيف أن النسخة الأرمينية من الفيلم، هي النسخة النهائية التي اعتمدها المخرج للفيلم، في حين أن النسخة السوفيتية جاءت ناقصة وأقصر من النسخة الأرمينية، ويعقد المؤلف مقارنة بين النسخين مبيناً أوجه التطابق والاختلاف فيما بينهما.
وأخيراً، يختتم كتابه بعودة باراجانوف للساحة الدولية في الفترة من منتصف وحتى آواخر الثمانينات مع فيلميه "أسطورة قلعة سورامي" و"أشيك كريب".

بالرغم من أن أفلام باراجانوف تبدو شديدة الغرابة والتفرد في نوعيتها، إلا إنها في الحقيقة شديدة الأصالة والعمق، ويدلل المؤلف على هذا بتتبع جذور تلك الأفلام في بيئتها المحلية، وفي نفس الوقت يبين مدى تأثر باراجانوف بالسينما الغربية، خاصة فيلليني وبازوليني.

ويبرز كذلك تأثير أفلام باراجانوف على العديد من المواهب الإخراجية المختلفة مثل "محسن مخملباف" و"أمير كوستوريتشا" و"ديريك يرمان" و"كيرا موراتوفا" أو غيرهم ممن تُمكِنُ مقارنة أعمالهم بما قدمه باراجانوف، إضافة إلى تيار لا يمكن تجاهله بأوكرانيا، يسمى "مدرسة السينما الشاعرية الأوكرانية"، خرج من معطفه، وصنع رواده العديد من الأفلام في الفترة من الستينات وحتى السبعينات.

ومع كل هذا، يبرز الناقد أيضاً الهجوم العنيف الذي تعرض له باراجانوف وأفلامه، التي اتهمت على أقل تقدير، حتى من جانب بعض النقاد، بالافتعال والزيف والغموض وانتحال التراث والافتقار للوحدة التركيبية والمفردات السينمائية، وكيف من ناحية أخرى، أنصفها البعض وقاله عنه نفر من النقاد، ليس أقلهم أستاذ علم الإشارات القدير "يوري لوتمان"، إنه أحد القلائل الذين شقوا مساراً جديداً في السينما من خلال الجمع بين القديم والحديث.

الرؤية الفنية 
ونجح مؤلف الكاتب أيضاً في إبراز العديد من النقاط المهمة التي توضح لنا في النهاية كيف بنى باراجانوف وشكّل رؤيته الفنية الخاصة، وذلك عبر التركيز على الأنواع التي تخلى عنها جيل الستينات مثل: الحكايات الخرافية، والأفلام الموسيقية الكوميدية، والميلودرامية، وكيف نهل من مصادر متنوعة مثل: الفنون الشعبية، والسريالية، والمنمنمات الفنية للعصور الوسطى، والكثير جداً من الموتيفات الأوكرانية والجورجية والأرمينية الجذور، بالإضافة إلى بواكير السينما، والأفلام الفنية السوفيتية والأوروبية.

ومع نهاية الكتاب، نكتشف أنه لولا هذه الشخصية الديناميكية البالغة التركيب والتعقيد لما استطاع المؤلف أن يطوف بنا في كل تلك المجالات الفنية والثقافية والجغرافية والتاريخية والسياسية بتلك البلدان الأربعة التي كانت من قبل تابعة للاتحاد السوفيتي. ومرد ذلك كله بالأساس، إلى سعة الاطلاع والتعلق الشديد والتعمق لدرجة الذوبان في ثقافات تلك البلاد وتراثها وأساطيرها ورموزها وفنونها من جانب باراجانوف، وأيضاً اهتمامه بالثقافة التركية والفارسية والقوقازية بشكل عام. الأمر الذي جعل من الصعب على النقاد الغربيين التصدي بدراسات وكتب كثيرة متعمقة تحلل وتشرح وتفسر أعماله، فقط صدر قبل عقدين كتاب بالفرنسية عنه، ومن هنا جاءت أهمية هذا الكتاب الذي أقدم على تأليفه الناقد والباحث السينمائي جيمس ستيفن المتخصص في السينما السوفيتية، والأستاذ بجامعة أطلانتا.

ونجح المؤلف على امتداد الكتاب في الإمساك بلغة باراجانوف السينمائية واستيعابها على نحو تام وإعادة توصيفها بلغة شديدة السهولة والعمق لتصل للقارئ دون عناء كي تشرح له ما قد يستغلق عليه أو يعجز عن استكشافه وسبر أغواره في أعمال المخرج، وبالتالي تحببه إليه وتُرَغّبُه أكثر في مشاهدة أو إعادة مشاهدة أعمال باراجانوف بعين جد مغايرة.



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك