المزيد
قبل خمسة عشر عاما، دمرت أميركا بلدي

التاريخ : 24-03-2018 |  الوقت : 11:56:59

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

سنان أنطون – (نيويورك تايمز) 19/3/2018

عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، نفَّذ صدام حسين، الذي كان نائب رئيس العراق آنذاك، عملية تطهير ضخمة، واغتصب السلطة الكلية رسميا. كنت أعيش في بغداد آنذاك، وطورتُ كراهية بديهية وعميقة للدكتاتور في وقت مبكر. وقد تكثف هذا الشعور ونضج فقط بينما نضجت. وفي أواخر التسعينات، كتبت روايتي الأولى "إعجام"، التي تحدثَت عن الحياة اليومية في ظل نظام حكم صدام الاستبدادي. وكان فرات، الراوي، طالبا جامعيا شابا يدرس الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد، كما فعلتُ أنا. وانتهى به المطاف إلى السجن بتهمة قول نكتة عن الدكتاتور. ويهلوس فرات ويتخيل سقوط صدام، مثلما كنت أفعل في كثير من الأحيان. وكنت آمل أن أشهد تلك اللحظة، سواء في العراق أو من بعيد.
غادرت العراق بعد أشهر قليلة من حرب الخليج في العام 1991 وذهبت إلى كلية للدراسات العليا في الولايات المتحدة، حيث ما أزال أقيم منذ ذلك الحين. وفي العام 2002، عندما بدأ التحشيد والتهليل للحرب على حرب العراق، كنت ضد الهجوم المقترح بشدة. كانت الولايات المتحدة تدعم الدكتاتوريين في العالم العربي بشكل دائم، ولم تكن في موضع يؤهلها لتصدير الديمقراطية، بغض النظر عن الشعارات التي أطلقتها إدارة بوش. وتذكرت نفسي جالساً في غرفة معيشة أسرتي مع عمتي عندما كنت مراهقاً، أشاهد التلفزيون العراقي وأرى دونالد رامسفيلد وهو يزور بغداد كمبعوث لرونالد ريغان ويصافح صدام. وجعلت تلك الذكرى كلمات رامسفيلد في العام 2002 حول الحرية والديمقراطية للعراقيين تبدو جوفاء. وفوق ذلك، وبعد أن عايشت حربين سابقتين (الحرب العراقية الإيرانية من 1980 إلى 1988 وحرب الخليج 1991)، أدركتُ أن الأهداف الفعلية للحرب كانت دائماً تُموَّه بأكاذيب جيدة التصميم، والتي تلعب على مشاعر الخوف الجماعي وتديم الأساطير الوطنية.
كنت واحداً من نحو 500 عراقي في الشتات -من خلفيات عرقية وسياسية مختلفة، والكثير منهم من المعارضين ومن ضحايا نظام صدام- الذين وقعوا عريضة: "لا للحرب على العراق. لا للدكتاتورية". وبينما كنا ندين حكم صدام الاستبدادي، فإننا كنا ضد "حرب يمكن أن تسبب المزيد من الموت والمعاناة" للعراقيين الأبرياء، والتي تهدد بدفع المنطقة بأكملها نحو الفوضى العنيفة. لكن أصواتنا لم تلقَ الترحيب في وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة، التي فضَّلت العراقيين-الأميركيين المؤيدين للحرب، الذين وعدوا بالجماهير الحاشدة التي سترحب بالغزاة "بالحلوى والزهور". والتي تبين أنها ليست موجودة.
ولم تحقق تلك العريضة الكثير من التأثير. وقبل خمسة عشر عاماً، بدأ غزو العراق.
بعد ثلاثة أشهر من ذلك، عدت إلى العراق للمرة الأولى منذ العام 1991 كجزء من مجموعة لتصوير فيلم وثائقي عن العراقيين في عراق ما بعد صدام. وقد أردنا أن نظهر أبناء بلدي ككائنات ثلاثية الأبعاد، أبعد من ثنائية صدام مقابل الولايات المتحدة. وكان العراقيون قد اختُزلوا في وسائل الإعلام الأميركية إما إلى ضحايا صدام الذين يتوقون إلى الاحتلال، أو مؤيدين ومدافعين عن الديكتاتورية، والذين عارضوا الحرب. وقد أردنا أن يتحدث العراقيون عن أنفسهم. وعلى مدى أسبوعين، تنقلنا حول بغداد وتحدثنا إلى العديد من سكانها. وكان البعض ما يزالون متفائلين، على الرغم من أنهم مستنزفون بفعل سنوات من العقوبات والدكتاتورية. لكن الكثيرين كانوا غاضبين وقلقين مما سيحدث. وكانت المؤشرات حاضرة بالفعل: الغطرسة والعنف المعتادان في قوة احتلال استعمارية.
أكدت زيارتي القصيرة فقط قناعتي وخوفي من أن الغزو سوف يسبب كارثة للعراقيين. كانت الإطاحة بصدام مجرد نتيجة ثانوية لهدف آخر: تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها. وقد تم استبدال تلك الدولة بدولة غير عاملة وفاسدة. وكنا ما نزال نصوِّر في بغداد عندما أعلن الجنرال بول بريمر الثالث، رئيس سلطة التحالف المؤقتة، عن تشكيل ما يسمى مجلس الحكم في تموز (يوليو) 2003. وكان اسم كل واحد من أعضائه متبوعاً بطائفته أو عرقه. وكان الكثير من العراقيين الذين تحدثنا إليهم في ذلك اليوم منزعجين من إضفاء الطابع المؤسسي على نظام الحصص الطائفية-العرقية. ومع أن التوترات العرقية الطائفية كانت موجودة مسبقا، فإن ترجمتها إلى عُملة سياسية كانت خطوة سامة. ومضت هذه الشخصيات البغيضة في مجلس الحكم، الذين كان معظمهم حلفاء للولايات المتحدة من العقد السابق، إلى نهب البلد، ليجعلوا منه واحداً من أكثر الدول فسادا في العالم.
كنا محظوظين لأننا تمكنا من تصوير فيلمنا في تلك الفترة الوجيزة التي ساد خلالها بعض الأمن العام النسبي. وبعد وقت قصير من زيارتنا، انزلق العراق إلى مدارك العنف؛ وأصبحت التفجيرات الانتحارية هي القاعدة. وجعل الغزو بلدي مغناطيسا جاذبا للإرهابيين ("سوف نقاتلهم هناك حتى لا نضطر إلى محاربتهم هنا"، كما قال الرئيس جورج دبليو بوش)، ثم انحدر العراق لاحقاً إلى حرب أهلية طائفية حصدت أرواح مئات الآلاف من المدنيين، وتسببت بنزوح مئات الآلاف من الآخرين، مغيِّرة ديمغرافية البلد بشكل لا رجعة فيه.
كانت المرة التالية التي عدتُ فيها إلى بغداد في العام 2013. كانت الدبابات الأميركية قد ذهبت، لكن آثار الاحتلال ما تزال ماثلة في كل مكان. كانت لدي توقعات متواضعة، لكن ذلك لم يقلل من مدى الإحباط الذي انتابني من بشاعة المدينة التي ترعرعت فيها، وراعني كيف أصبحت الحياة اليومية مختلة، صعبة وخطرة بالنسبة للغالبية العظمى من العراقيين.
كانت زيارتي الأخيرة للعراق في نيسان (أبريل) 2017. وقد سافرت من نيويورك، حيث أعيش الآن، إلى الكويت، لإلقاء محاضرة. وعبرت أنا وصديقةٌ عراقية الحدود عن طريق البر. كنت ذاهباً إلى مدينة البصرة  في جنوب العراق. وكانت البصرة هي المدينة العراقية الرئيسية الوحيدة التي لم أزرها من قبل. كنت سأوقع كتبي في سوق الكتاب يوم الجمعة في شارع الفراهيدي، وهو تجمع أسبوعي لمحبي الكتب على غرار سوق شارع المتنبي الشهير في بغداد. وكنتُ مدفوعاً إلى ذلك برغبة الأصدقاء. ولم أكن أتوقع رؤية البصرة الجميلة التي رأيتها في البطاقات البريدية في سبعينيات القرن الماضي. فقد اختفت تلك المدينة منذ زمن طويل. لكن البصرة التي رأيتها كانت منهكة جداً وملوثة جداً. وقد عانت المدينة الكثير خلال الحرب الإيرانية العراقية، ثم تسارعت وتيرة انهيارها بعد العام 2003. كانت البصرة شاحبة ومهدمة وفوضوية بسبب الفساد المتفشي. وأنهارها ملوثة وفائضة. ومع ذلك، قمت برحلة حج إلى التمثال الشهير لأعظم شاعر في العراق، بدر شاكر السياب.
كان أحد مصادر الفرح القليلة بالنسبة لي خلال هذه الزيارات القصيرة هو لقاءاتي مع العراقيين الذين قرأوا رواياتي وتأثروا بها. وهي رواياتٌ كنت قد كتبتها من مكان بعيد، ومن خلالها، حاولت أن أتفاوض مع التفكيك المؤلم لبلد بأكمله وتدمير نسيجه الاجتماعي. وتطارد تلك النصوصَ أشباحُ الموتى، تماماً كما تفعل بمؤلفها.
لا أحد يعلم على وجه اليقين كم من العراقيين ماتوا نتيجة للغزو قبل 15 عاماً. وتضع بعض التقديرات الموثوقة العدد عند أكثر من مليون إنسان. ويمكن أن تقرأوا هذه الجملة مرة أخرى. وغالباً ما يتم التحدث عن غزو العراق في الولايات المتحدة على أنه "تخبط"، أو حتى "خطأ فادح". لكنه كان جريمة. وما يزال أولئك الذين ارتكبوها طلقاء، حتى أن البعض منهم أعيد تأهيله بفضل أهوال الترامبية ومواطنين فاقدي الذاكرة في الغالب الأعم. (قبل عام، شاهدت السيد بوش في برنامج "إلين دي-جينيرز" وهو يرقص ويتحدث عن رسوماته). وما يزال النقاد و"الخبراء" الذين باعوا علينا الحرب يواصلون عملهم كالمعتاد. لم أعتقد في أي يوم من الأيام أن العراق يمكن أن يكون أبداً أسوأ مما كان عليه خلال عهد صدام حسين، لكن هذا بالضبط هو ما حققته حرب أميركا وأورثته للعراقيين.

*شاعر وروائي وأكاديمي عراقي مقيم في الولايات المتحدة. من أعماله الروائية، "وحدها شجرة الرمان"، و"إعجام"، و"ليل واحد في كل المدن".
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
 Fifteen Years Ago, America Destroyed My Country

وكالة كل العرب الاخبارية



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك