المزيد
الفقر في الأردن.. مقاييس بلا مواصفات

التاريخ : 08-01-2018 |  الوقت : 12:16:05

مرت 20 سنة كاملة على دخول وزارة التخطيط على موضوع الفقر في الأردن، بالذات إلى ميدان الإدارة والتخطيط والتنفيذ والصرف. 
قبل ذلك كانت في الوزارة وحدة صغيرة قديمة مختصة بدراسات الفقر، غير أن الدخول الجديد لم يمرّ عبر هذه الوحدة، ولأن مبنى الوزارة مؤلف من جناحين، فقد بقيت وحدة الدراسات في الجناح القديم وفي غرفة منفصلة عن مكاتب إدارة الفقر الجديدة التي احتاجت لظروف وامتيازات عمل جديدة أيضا بعيدا عن عيون الحاسدين من موظفي القطاع العام "التقليدي". 
في البداية، سُمي النشاط الجديد "حزمة الأمان الاجتماعي" واختصارا كان يقال "الحزمة"، وكنتَ إذا زرتَ مبنى الوزارة وقلت: أريد "الحزمة"، فإن كثيرين كانوا سيرشدوك فورا. وقد ازدهر في تلك الفترة مفهوم "المناطق الأقل حظا" التي حُدّدت ورُتبت بالتسلسل، ونشأ هذا المفهوم في سياق الإجابة على السؤال الذي كان وما يزال يطرح لليوم: لقد أحصينا الفقراء وقسنا نسبة فقرهم، ولكن أين هم وكيف نجدهم؟ 
وبين يدي الآن كومة من الأوراق تعود لتلك الفترة، مليئة بالأرقام والرسوم والصور والتصورات، التي قد تصلح كمرجع في "كوميديا التنمية".
ترافق هذا المسار الجديد في التعامل مع قضية الفقر مع دخول البنك الدولي على خط النقاش، وكان البنك قد نشر أول دراسة له العام 1994 بعنوان "تقييم الفقر في الأردن"، وهي واحدة من أكثر من مائة دراسة مماثلة لدول أخرى صدرت عن البنك بالعنوان ذاته. وفي نهاية عقد التسعينيات دخل البنك إلى ميدان التنفيذ.
قبل ذلك الزمن، كان الفقر في الأردن يدار ويقاس وطنيا، ولم يكن البنك الدولي قد شمل باهتماماته قضية الفقر في أي بلد في العالم، وقد انتظر البنك أن ينهي روبرت مكنمارا عمله كوزير دفاع أميركي ويلتحق مديرا للبنك ويبادر إلى طرح قضية الفقر!
في مجمل نقاش قضية الفقر في الأردن، ظلت قصة المفاهيم تحتل أهمية كبرى، لأنها ستتحول إلى ما يشبه "الشعارات" للبرامج، فبعد أن انتهى مفعول "الحزمة" و"الأقل حظا"، طور المشتغلون بالأمر، وتحت إشراف البنك الدولي أيضا، مفهوم "جيوب الفقر"، وخدم هذا المفهوم لأكثر من 10 سنوات إضافية ابتداء من العام 2005، تبدلت خلالها قائمة الجيوب عدة مرات، ودخلت مناطق وخرجت أخرى، وبالتزامن شهدت هذه الفترة بروز شعار "تعزيز الانتاجية".
يبدو اليوم أن مفهوم "جيوب الفقر" قد استهلك، ويجري البحث عن بدائل، ومرة أخرى بإشراف البنك الدولي الذي يعتمد أسلوب تبديل الشعارات التنموية على المستوى العالمي.
وبالطبع، خلال هذين العقدين، كانت جهات أخرى تشتغل على شعارات أخرى. لعلكم تذكرون مثلا الخطة التنفيذية "الحاسمة" المحددة بالأشهر والأسابيع والأيام، في عهد حكومة الدكتور معروف البخيت الأولى، التي رافقت فكرة "هيئة التكافل الاجتماعي". وتذكرون أيضا برامج وزارات التنمية الاجتماعية والبلديات والزراعة التي صممت مفاهيم/ شعارات خاصة، محلية حينا وأسرية حينا آخر. أطرفها الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر التي وضعت لها شعار "أردن أقوى"، ويا للطرافة! فقد عثرت على كومة من منشورات الاستراتيجية والأقراص المدمجة (سي. دي) يبيعها فقراء البسطات في وسط عمان، بسعر عشرة قروش للنسخة الواحدة من الاستراتيجية! لعل هذه من أبرز فوائد الفقراء من الاستراتيجية......
يبدو اليوم أن وزارة التخطيط اكتشفت أن الفقر في الأردن لا يوجد في جيوب محددة، بل هو منتشر في مناطق أخرى عديدة حيث الكثافة السكانية، ومن المرجح، وفق الوزارة، نفسها أن يجري اعتماد مفهوم "المناطق ذات الخصوصية التنموية".
طيلة هذين العقدين، قلما التفت المشتغلون بقصة الفقر خلفهم وسألوا عن النتائج. وعموما اعتمدت وزارة التخطيط أسلوب "إحالة العطاءات" بشكل معلن وشفاف، وذات يوم كنت أجادل مسؤولا في الوزارة بمعطيات رأيتها ووثقتها وصورتها، تشكك بمحتوى ما جرى تنفيذه في الواقع. قال لي ببساطة: ما تقوله صحيح، وأتوقعه وأعرف أكثر منه، ولكن أوراقي صحيحة أيضا، وأشار إلى أكوام من الأضابير أمامه وإلى جانبه، وقال: كل هذه الفواتير والمطالبات قانونية بالكامل، أما المحتوى فعليك أن تبحث عنه في مكان آخر.
من المقاييس إلى المواصفات
يدافع هذا التقرير عن فكرة أنه لا يجوز البحث عن فهم ومعالجة الفقر "الوطني" خارج وطن هذا الفقر. بمعنى أن فقر الأردنيين يدرس ويفهم ويعالج أردنيا بالدرجة الأولى. حسنا فعلت الدولة بإدراجها مفهوم الفقر في خطابها التنموي وبشكل مبكر، قبل أكثر من ثلاثة عقود، وحينها قدّرت نسبة الفقر بـ 4% فقط. ووفق موظفي صندوق المعونة الوطنية القدامى، فقد كانوا (الموظفون) يتجولون ويطرقون أبواب الفقراء، لأن الفقير كان يتردد عن طرق أبواب الصندوق، ويتذكرون أن الفقير من أقارب الموظفين ومعارفهم كان يرفض زيارة الصندوق حرجا.
بصورة عامة، إن بقاء ظاهرة اجتماعية كالفقر، تحت عيون السلطة وأصحاب القرار، يعني أنها ما تزال تحت السيطرة، وفي الأردن بقيت ظاهرة الفقر فعلاً تحت عين السلطة، ولم تتشكل عندنا مجتمعات فقر مغلقة او معزولة، ولا توجد في بلدنا "مجاهل" يعيش فيها الفقراء، وهذه مظاهر تنتشر في كثير من البلدان، مما جعل قضية الفقر فيها تتعقد كثيراً. إن الفقير في أبعد المناطق في الأردن، يرى أن بمقدوره الوصول إلى أعلى السلطات.. إذا صمم وأراد.
في الأردن، ما يزال الفقراء يتعاطون مع مؤسسات الدولة، وخاصة في التعليم والصحة، والواقع لا نزال نعيش على ما أنجز تنمويا في عقدي الستينات والسبعينات، وبالذات في هذين القطاعين (التعليم  والصحة) وهما أساس أي تنمية بالمطلق.
لكن هذه الميزة للفقر "الوطني" أخذت تتبدل وبتسارع، ففي العاصمة والمدن الكبرى، تنشأ أنوية لمواقع تنعزل تدريجياً، وليس بالضرورة أن تكون هذه المواقع فقيرة بالكامل، فللعزلة أسباب أخرى، لكن الفقر قد يجد فيها ملجأه المناسب.
وحتى في مناطق بعيدة، وخاصة البادية، وهي من الأكثر تضررا من النهج الاقتصادي الكلي، تنكفئ بعض المواقع في ظاهرة "فقر صامت"، ويتزايد الشعور بالاغتراب عما يجري في البلد.
بالتوازي مع "الفقر التقليدي" تنمو ظاهرة فقراء القطاع العام، تحت تأثير تراجع القيمة الشرائية للدخول التي لا تصنف ضمن خطوط الفقر، والأمر ذاته في كثير من مؤسسات القطاع الخاص، حيث يجري التعامل مع الحد الأدنى للدخل بصفته -لبعض الفئات- حداً أدنى وأعلى في الوقت ذاته.
لعل واحدة من المواصفات الجديدة للفقر والفقراء لم تأخذ حيّزا ملحوظاً او غير ملحوظ من الاهتمام، وهي زيادة مستوى "التوتر" المرافق للفقر. إذ تتكثف ظاهرة الفقر الفاحش مقابل الغنى الفاحش. فإلى زمن قريب نسبيا، ظل الغنى والفقر متجاوران بشكل مستوعب إلى حد كبير. وعلى الدوام كان يتوفر حيز عام معقول يجمع المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية (كالتعليم المدرسي والجامعية مثلاً)، ولكن الانقسام والتباعد يبرزان، وفي كثير من مظاهر التخطيط العام هناك انحياز للأغنياء. لنراقب مثلا توزيع "مكبات النفايات" و"محطات التنقية" على مستوى البلد ككل، حيث يتعين على الفقراء تحمل التلوث الذي ينتجه الأغنياء (وهذا موضوع لتقرير قادم).
المسألة المهمة الأخرى في مواصفات الفقر والفقراء في الأردن، تتعلق بتجاربهم الذاتية في مكافحة فقرهم، وهي أمور ينبغي الاقتراب منها بشكل ملموس وتفصيلي، إذ يتعين على أية خطة ان تلتقي في منتصف الطريق مع تجربة الفقراء أنفسهم، إن الفقير يبني استراتيجيته الخاصة للبقاء والمواجهة، وإن التعامل معها باحترام وجدية سوف يقلل من مخاطر الفشل في الاستراتيجيات والخطط الكبرى على المستوى الوطني. مرة أخرى، في قضايا التنمية عموما، وقضية الفقر خصوصا، علينا توجيه عين إلى الخارج، مقابل مائة عين إلى الداخل.وكالة كل العرب الاخبارية



تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
اضافة تعليق جديد

الحقول التي أمامها علامة * هي حقول لابد من ملأها بالبيانات المطلوبة.

:
:
:
 
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
كيف تتوقع نهاية الاحداث الجارية في قطاع غزة؟



تابعونا على الفيس بوك